الفن العراقي في تدمير الذات

قد نكون نحن العراقيين من بين المجتمعات التي برعت في جلد الذات وأحيانا تجريحها، وتحفل ثقافتنا كما تاريخنا بنماذج مهمة من اللوم الصارخ الذي نوجهه لأنفسنا حد الشتم الصريح. فنحن «أهل الشقاق والنفاق»، الشتيمة التي نفتخر بتذكير أنفسنا بها، لأن الإمام علي قالها بحقنا، حتى بعد 1400 سنة مضت عليها، وكأنه كان يخاطبنا نحن لا أناسا انتموا الى عصر غير عصرنا. ان جلد الذات وتقريعها تسرب الى ثنايا وجداننا وساهم في قولبة وعينا، ليصبح جزءا من ممارستنا اليومية ومن انتاجنا المتواصل للشخصية العراقية، وربما يمكن ان ينتمي ذلك الى شكل من أشكال الميكانيزمات النفسية التي تستخدم للتعبير عن العجز أمام التعاطي مع الظرف الحياتي الصعب بافتعال عجز قدري دائم في ذاتنا «الملعونة»، لا لشيء، إلا لأن القدر شاء لها ذلك، ولنفس السبب ربما تتبنى الكثير من الشرائح فكرة ان الخلاص سيبدأ من ارض العراق، بعد ان يعم الفساد «في هذه الارض تحديدا».

ولكن ما اريد ان أتطرق اليه هنا هو ليس فكرة جلد الذات بذاتها، بل تحول هذه الفكرة الى شكل من أشكال الاعتياد السلوكي على تدمير الذات. فالشخصية العراقية على ما تحفل به من تناقضات تنطوي على حالات متطرفة من المواقف، تنتهي بها عادة الى التدمير بمعناه الفيزيائي او المعنوي. فنحن متطرفون بغضبنا وبتعاطفنا، بإيماننا وبشكنا، بحبنا وكرهنا. وانسحب هذا التطرف على مجمل سلوكياتنا ومتبنياتنا الاعتقادية حتى وكأن الفضاء العراقي هو ساحة للصدام بين مجموعات متطرفة، بل قل مجتمعات تمتهن التطرف في ما تقول وتفعل. ويبدو ان البحث عن مناخ وسطي، افتعال في بيئة تزدحم بالتكفير والتخوين والقدرة على الغاء الاخر، بل وإلغاء الذات بمعنى من المعاني. فرغم الاعتراف الخطابي بوجود كينونة جماعية عراقية، إلا اننا ننقض هذه الكينونة بشكل مستمر عبر مصادرة الحقيقة ومصادرة الفعل، وتحويل هذه المصادرات الى جزء من بنية الواقع الحياتي حتى وصل الأمر الى وسم هذا الواقع بكل هذه السلوكيات، وبالتالي تحويل البلد بأكمله الى مستنقع من التدمير المتبادل الذي ينفي المعنى المفترض للحياة، والمعنى المسوق له للتعايش معا، ويصبح «العراق» و«العراقية» اوصافا خطابية لا تغادر مستوى النفاق السياسي.

لنفس السبب اصبحت عبارة «ماذا لو» جزءا من منظومة التفكير الشعبي السائد في انفعاله المتواصل مع النكوص والانحدار في طبيعة الحياة المعاشة. هذا الانحدار الذي يتدحرج ككرة الثلج منذ زمن ليس بالقصير، مكرسا حالة من الإحباط وربما اليأس وإنتاجا متواصلا لفكرة تدمير الذات عبر نقل التسويات الحياتية المفترضة الى حافة الهاوية، واعتياد التعايش مع فكرة اللاعودة حتى أصبح الموت بكل ما يعبر عنه من نفي للوجود بمعانيه الفيزيائية والاعتبارية رفيقا دائما للوجود العراقي اليومي، وهو يخوض معركته الخاسرة مع الوجود نفسه.

ماذا لو لم تجر الأمور على هذا النحو، يبدو اليوم كما كان في الأمس تعبيرا عن العقم الذي يستشعره الوعي العراقي في تعاطيه مع الاشياء من حوله، وجزءا من المشكلة لا الحل عندما يظل هذا الوعي يخادع نفسه بالبحث والتنبيش في الزمن الذي مضى، خالقا ممانعة أخرى مع الحاضر، ممانعة تخلق بدورها أساسا آخر لتدمير هذا الحاضر، وتدمير الذات معه. ويبدو الأمر وكاننا ادمنّا سلبية ضارة سارت بنا دائما نحو مفترق آخر للندم، لنكمل رحلتنا الدائمة في تدمير الذات مستجدين خلاصنا بذلك، وهو خلاص من نوع آخر على الدوام.

ان ما يعانيه العراقيون اليوم، يتحمل مسؤوليته الكثيرون، دول الجوار والاحتلال وكل أنواع الشياطين التي يمكن العثور على أمكنة لها في زوايا العقل الجمعي، غير ان ثقافتنا ومواطن الخلل «البنيوي» في تفكيرنا وتعبيرنا عن الذوات تقدم أسبابا أكثر جوهرية لـ«فشلنا» في ان نكون غير ما نحن عليه. لا يمكن للشعوب ان تنهض من كبواتها اذا كانت تسلم وعيها لأقصى أشكال التفكير سلبية، ويغدو هاجسها الدائم لوم وجلد ذاتها، وخوض صراع صفري في داخلها، يعبر بشكل أو آخر عن رغبة دفينة في ان نكون ما نحن عليه، ربما لأننا لم نؤمن بعد، ولزمن آخر بأن التغيير ممكن عبرنا وبنا.