لماذا لم تقتل ابن زياد يا مسلم؟
زكي لطيف
تاريخ الشيعة بتاريخ الإسلام إلا أن الطائفة الشيعية انقسمت إلى العديد من المذاهب، بقي منها الاثنى عشرية والإسماعيلية والزبدية وكلا هذه المذاهب منقسمة فيما بينها إلى فرق وتيارات متعددة على غرار المذهب الإسلامية الأخرى،الشيعة في هذا العصر اغلبهم أثنى عشرية وتراثهم التاريخي يحتل الجزء الأعظم من التاريخ الإجمالي للطائفة الشيعية، ألاحظ على هذا التاريخ عنصر التراجيديا ،فهو حاضر باستمرار ، فالزهراء (ع) ماتت مظلومة غاضبة على الخليفتين ومسقطة جنينها ومطالبة بالخلافة لزوجها وأب ابنيها الحسن والحسين الإمام علي(ع) الذي وابنيه قضوا مقتولين على أيدي أعدائهم، فعلي بضربة سيف وهو يصلي في ليلة التاسع عشر من رمضان سنة 40 هـ ونجله الحسن قضا سمى على يد زوجته جعده والحسين قتل بسيوف من دعوه للخلافة بالقرب من الكوفة سنة هـ61، ويكاد يجمع المؤرخون الشيعة وعلماء المذهب وأقطابه على أن كافة الأئمة (ويستثنى بطبيعة الحال الإمام المهدي الغائب) قضوا جميعا بالسم على يد حكام عصورهم، وتشير الكثير من الأدبيات والمرويات في سيرة الإمام الغائب (المهدي بن الحسن) على انه سيموت بالسم أيضا ، ويقر العديد من العلماء والمؤرخين الشيعة على أن النبي(ص) مات بالسم كذلك ، ونظرا لمسببات عديدة وعوامل متعددة في التاريخ كان الشيعة أقلية وفي نفس الوقت كانوا يشكلون عنصر المعارضة الأبرز للأنظمة الحاكمة خاصة في العهود الأموية والعباسية ، لذلك فقد أوقع فيهم الحكام المتعاقبين المجازر في مقدمتها مجزرة حرب كربلاء التي جرت بين الإمام الحسين وأصحابه وجيش ابن زياد الذي يشكل الكوفيين الذين دعوا الحسين لتولي السلطة معظم جنوده وتليها ثورات عديدة كثورة التوابين وثورة زيد بن علي ويحي بن زيد وغيرها الكثير، كما كان الشيعة باعتبارهم أقلية عددية في مقابل أهل السنة ضحايا لفتن دامية في التاريخ ،وما يجري اليوم في العراق ليس سوى امتداد لذلك المسلسل العبثي منذ ما يناهز الألف سنة حتى يومنا هذا.
لم يكن الشيعة مهادنين لسلطات زمانهم ولو كانوا كذلك لما تعرضوا للقتل والتصفية ولما أصبحوا أقلية في مقابل المذاهب الأخرى، في فترات قليلة في التاريخ السياسي قامت دول شيعية كالادارسة في المغرب والبويهيين في العراق والدولة الصفوية في إيران، والأخيرة هي التي فرضت المذهب الشيعي الأمامي على الشعب الفارسي وقبل ذلك كان سكان فارس يدينون بالإسلام على مذاهب أهل السنة وخرج منهم العديد من الفقهاء والأعلام كالإمام البخاري صاحب صحيح البخاري ، ثاني كتاب بعد القران الكريم عند فقهاء أهل السنة ، وتشيع إيران اليوم لا يتجاوز عمره ال700 عام، فقط بينما تشيع بعض حواضر الخليج والعراق يعود إلى أيام حكم الإمام علي (ع) .
تعرض الشيعة للاضطهاد فرضته عوامل متداخلة ومتشابكة، من أهمها عدم ولاء أقطاب المذهب سواء من الأئمة أو الفقهاء للحكومات القائمة على العكس من المذهب السنية ، و لم يمتلك علماء المذهب وأعلامه أية رؤى تمكنهم من الانسجام والتعامل الايجابي مع هذه الحكومات، لذلك طغى التوتر والشك والريبة على علاقة الطائفة الشيعة بالحكومات السنية القائمة وشابتها الدماء والصراعات الطائفية، هذا الاضطهاد المستمر من قبل الدول والأنظمة التي تعاقبت على الحكم اوجد في الحياة الشيعية عقدا نفسية ودينية عميقة ، فرغم أن الشيعة في العراق الجديد هم من يمسك بزمام السلطة إلا أن هناك أصوات من كبار القادة الدينيين كالسيد عبد العزيز الحكيم تطالب بالفيدرالية وتصر على إقامة فيدرالية في الجنوب الشيعي ويبرر الحكيم موقفه هذا بان ذلك ضمانا لعدم عودة الديكتاتورية،ّ رغم أن النظام السياسي الحاكم في عراق ما بعد صدام حسين تتزعمه الأغلبية الشيعية، ومن المفارقات أن الأقلية السنية تعارض الفيدرالية وتدعوا إلى حكومة مركزية قوية!!
هناك عقدة المظلومية التي ما تزال مستحكمة في التركيبة النفسية والعقائدية للشيعة، كما أن الشيعة بشكل عام خبراتهم في إدارة السلطة محدودة قياسا بالسنة الذين تولوا الحكم بعد وفاة النبي(ص) مباشرة ، ومن النكات الجديرة بالاهتمام أن الأغلبية في العراق والبحرين من الشيعة إلا أن العراق الحديث حكم من قبل الأقلية السنية إلى نهاية عهد الرئيس الراحل صدام حسين، وفي البحرين تتربع الأقلية السنية على سدة السلطة رغم أن الشيعة يمثلون الأكثرية العددية .
أن عقدة المظلومية المستحكمة وما يرتبط بها من مفاهيم وقيم وضعف الخبرات السياسية وقلة المؤسسات المدنية والتنفيذية والحضارية في الاجتماع الإنساني الشيعي حول الشيعة على مر تاريخهم إلى مذهب مضطهد مقهور، ولعل من أثار ذلك عقيدة التقية.
يحيي الشيعة مآسيهم التاريخية طوال العام، في مناسبات يغلب عليها البكاء واللطم وكافة أشكال التعبير عن الحزن والتفاعل العاطفي مع القيادات التاريخية في مقدمتها الأئمة ، إلا أن هذه الشعائر الدينية وان كانت تحمل جوانب تنويرية كالمحاضرات السياسية والثقافية إلا إنها تخلو من النقد ورصد الأخطاء التي من الممكن أن تكون كارثية والتي أدت إلى حدوث تلك المجزرة أو تلك الواقعة التي اجتمع الحاضرون للبكاء عليها ! ذلك أن المذهب الشيعي كغيره من النحل الدينية أسير عقائد صلبة تنعدم فيها مساحات الحرية اللازمة لنقدها ومراجعتها ،لذلك ظل الشيعة أسراء لماضيهم التراجيدي في معظم الأحيان ، وتغدي هذه النزعة الصوفية تلك العقائد التي تدعوا المجتمع المتدين للصبر وانتظار المهدي الغائب، الذي سوف ينتقم للشيعة وأئمتهم ويجعلهم سادة العالم.
أن انتصار الشيعة في إيران ولبنان قائما على تلك النزعات العقائدية الصوفية التراجيدية وليس على جلد للذات تاريخا وعقيدة ، أن التاريخ والعقائد الشيعية مثلما سخرا لتصب في صالح المشروع الديني الشمولي في إيران ولبنان استغلا أيضا للإبقاء على دائرة الصبر وتحمل الاضطهاد الممارس على الفرد والمجتمع حتى ظهور المصلح ، فلقد انقسم الفقهاء الشيعة إلى فرقتين، الأولى ترفض الحكم والسلطة والكفاح في سبيل مجد الطائفة الشيعية وعزها،في رجوع أيدلوجي للفتاوى الفقهية وعبر فهم آحادي الجانب لتاريخ قادة الشيعة ، لتصبح المفاهيم الدارجة ضرورة حفظ الأموال والأنفس وحرمة الخروج في عصر الغيبة والثانية بناء على توابث ومنطلقات تاريخه وعقائدية وفقهية أيضا تنادي بالجهاد كما في لبنان والعراق أيام حزب البعث وفي ظل الاحتلال الأمريكي، وفي كلا الحالتين ليس الإنسان الشيعي سوى وقود للاجتهادات المتباينة وللمركزية المسيطرة، فإذا اجتمع على السلم قيل هكذا كان الحسن وإذا رفع السلاح ورفرفت راية الحرب قيل الحسين ! وفي كل الحالتين تنعدم الرؤى الناقدة الداعية لانتشال الإسلام الشيعي من عقدة الضعف والحزن السردي وعدم تكبيله بالتعاليم الدينية التي تقف في وجهة تأسيسه لنظام سياسي واقتصادي واجتماعي متمدن ومنفتح يحتضن الدين إلى جانب القيم الإنسانية المتسالم عليها .
للشيعة إلى يومنا هذا عقدهم المستحكمة سياسيا، فهم يرفضون الاعتراف بشرعية الأنظمة الحاكمة بل حتى نظام ولاية الفقيه في إيران لا يقره إلا القليل من الفقهاء ويرى الأغلبية بان الحكم الإسلامي الصحيح هو من حق المعصومين فقط ، وبسبب هذه العقيدة يرفضون إقامة أية علاقة مع السلطة، ومن هذا السلوك العصامي المتطرف أصبحت علاقة الشيعة بالسلطة كإدارة ونظام سياسي قائم ضيقة ومتوترة على مر الزمان، وللشيعة عقدهم النفسية فهم تاريخا ضحايا دائمين للقمع السياسي والمذهبي وللتصفيات الجسدية والمجازر، فهم اليوم في العرق يقتلون يوميا رغم كونهم الأغلبية العددية والسياسية والعسكرية !! أن هذا الخلل الذي يعيشه الشيعة إلى يومنا هذا ليس سوى امتداد لأخطاء تاريخية خطيرة انعكست على الشعوب والمجتمعات الشيعية على امتداد أجيال متعاقبة، في ليلة الرابع من المحرم يجتمع آلاف الشيعة بل الملايين منهم في جميع أنحاء المعمورة ليقرئوا سيرة مسلم بن عقيل سفير الإمام الحسين في الكوفة ، يبكي الحاضرون على مصيبة مسلم ويذكرون بطولاته الخالدة، إلا أن نظرة تحليلية متصفة بالموضوعية والحياد والمعالجة التاريخية لا شك بأنها سوف تكشف حقائق خطيرة وأخطاء جسيمة لو إنها لم تحدث لانقلبت الأحداث رأسا على عقب لصالح ثورة الإمام الحسين (ع) ولستتب له الحكم والسلطة ولانهار حكم بني أمية وتغير مسار الإسلام العقائدي والسياسي تماما، هذه الأخطاء أظن أن العديد من العلماء والفقهاء والمفكرين الشيعة التفتوا إليها إلا إنهم وئدوها في دواخلهم وعوضا عن مراجعتها وتحقيقها من اجل تصحيح مسار الطائفة الشيعة في مختلف الأصعدة الميادين الحيوية عمدوا إلى بث الفلسفات المناوئة لمنهج التفكير النقدي والموضوعي كقولهم أن الإمام الحسين ذهب ليقتل وانه كان يعرف مصيره، "وما منا إلا مقتول أو مسموم" رغم أن العديد من المؤرخين يشككون في أن جميع الأئمة قضوا مسمومين كما يقول بذلك اغلب الفقهاء وما هو شاع في الثقافة الشعبية الدارجة ، وذلك من اجل عدم فتح باب النقد والمراجعة والتحليل في ثورة الإمام الحسين التي تعتبر إحدى أهم الأحداث التي تأسست منها الكثير من العقائد والمفاهيم والفتاوى التي يستند عليها الشيعة بشكل عام والأمامية خاصة .
نظرة مقارنة بسيطة بين مسلم بن عقيل(ع) سفير الإمام الحسين (ع) وسيرة عبيد الله بن زياد والى يزيد بن معاوية على الكوفة ، تتضح من خلالها الأخطاء التاريخية الفادحة التي اثرث على الإسلام الشيعي وجعلته عرضة للاضطهاد والقمع والضحية الدائمة لسياسات السلطات الحاكمة على مر الزمان سواء كان أكثرية أو أقلية مذهبية ، عندما سار مسلم للكوفة اعترته مشقة فركن للسلامة وطلب من الحسين الإعفاء ، يقول ابن مخنف: فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى حسين وذلك بالمضيق من بطن الخبيت. أما بعد فاني أقبلت من المدينة معي دليلان لي فجارا عن الطريق وضلا واشتد علينا العطش فلم يلبثا أن ماتا واقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بخشاشة أنفسنا وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت وقد تطيرت من وجهي هذا فان رأيت اعفيتنى منه وبعثت غيري والسلام" (1)
أما مسيرة ابن زياد للكوفة فقد اتصفت بالجلادة والقوة والبأس، فقد خرج ابن زياد ومعه المئات من أهل البصرة ومضى حثيثا نحو الكوفة، يسابق خطاه ويصل الليل بالنهار حتى مات منهم الكثير فلا يلتفت إلى من قضى نحبه منهم "لما جاء كتاب يزيد إلى عبيد الله بن زياد انتخب من أهل البصرة خمسمائة فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل وشريك بن الأعور وكان شيعة لعلي فكان أول من سقط بالناس شريك فيقال انه تساقط غمرة ومعه ناس ثم سقط عبد الله بن الحارث وسقط معه ناس ورجوا أن يلوي عليهم عبيد الله ويسبقه الحسين إلى الكوفة فجعل لا يلتفت إلى من سقط ويمضي حتى ورد القادسية وسقط مهران مولاه فقال يا أبا مهران على هذه الحال أن أمسكت عندك حتى تنظر إلى القصر فلك مائة ألف فقال لا والله ما استطيع فنزل عبيد الله واخرج ثيابا مقطعة من مقطعات اليمن ثم اعتجز بمعزة يمانية فركب بغلته ثم انحدر راجلا وحده"(2)
ماذا فعل مسلم (ع) في الكوفة وماذا فعل ابن زياد ؟
عندما دخل مسلم الكوفة أخد البيعة من جموع أهلها وبعث بمكاتيبهم للحسين ، ومكث فيهم بانتظاره واخذ يصلي بالناس جماعة ، وترك قصر الإمارة وأنصار بني أمية دون أن يزيحهم عن طريق الثورة ، اشترى مسلم السلاح وكان له أنصار إلا أن ذلك كان خارج دائرة قصر الإمارة التي تمثل السلطة والقوة والنفوذ ، ولو انه استولى على قصر الإمارة في الكوفة وحبس الأمويين وأنصارهم لامسك بزمام الأمر تماما، تقول السير: ثم اقبل مسلم حتى دخل الكوفة فنزل دار المختار بن أبي عبيد وهي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيب، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب حسين فأخذوا يبكون، فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فاني لا أخبرك عن الناس، ولا اعلم ما في أنفسهم، وما أغرك منهم، والله أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه، والله لاجيبنكم إذا دعوتم، ولا قاتلن معكم عدوكم ولا ضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله. فقام حبيب بن مظاهر الفقعسى فقال: رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك، ثم قال: وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه. ثم قال الحنفي مثل ذلك، فقال الحجاج بن علي: فقلت لمحمد بن بشر فهل كان منك أنت قول؟ فقال: أن كنت لأحب أن يعز الله أصحابي بالظفر وما كنت لأحب أن اقتل وكرهت أن اكذب، واختلفت الشيعة إليه حتى علم مكانه..(3)
أما ابن زياد فقد توجه من ساعته مع من بقى من مرافقيه إلى قصر الإمارة وأزاح واليها الضعيف النعمان بن بشير، تقول السير: ، فركب بغلته ثم انحدر راجلا وحده، فجعل يمر بالمحارس، فكلما نظروا إليه لم يشكوا انه الحسين فيقولون: مرحبا بك يابن رسول الله، وجعل لا يكلمهم وخرج إليه الناس من دورهم و بيوتهم، وسمع بهم النعمان بن بشير فغلق عليه وعلى خاصته.
وانتهى إليه عبيد الله وهو لا يشك انه الحسين ومعه الخلق يضجون. فكلمه النعمان فقال: أنشدك الله ألا تنحيت عني، ما أنا بمسلم إليك امانتى ومالي في قتلك من ارب، فجعل لا يكلمه، ثم انه دنا وتدلى الآخر بين شرفتين فجعل يكلمه فقال: افتح لافتحت، فقد طال ليلك، فسمعها إنسان خلقه فتكفى إلى القوم فقال: أي قوم ابن مرجانه والذي لا إله غيره، فقالوا: ويحك إنما هو الحسين ففتح له النعمان فدخل وضربوا الباب في وجوه الناس فانفضوا وأصبح فجلس على المنبر
فقال: أيها الناس إني لأعلم انه قد سار معي وأظهر الطاعة لي من هو عدو للحسين حين ظن أن الحسين قد دخل البلد وغلب عليه، والله ما عرفت منكم أحدا ثم نزل وأخبر أن مسلم بن عقيل قدم قبله بليلة وأنه بناحية الكوفة " (4)
لقد اعد ابن زياد الجنود والسلاح والأموال وحكم في أهل الكوفة السيف والبأس والمكر وطارد مسلم وأنصاره فقتل منهم من قتل وسجن من سجن ، وأغرى بالمال من أغرى ، حتى خضعت له الكوفة ، وتفرق الناس عن مسلم وغدا وحيدا ، وبعد أن كان يقود الآلاف من القاتلين ويؤم منهم الجموع غدا وحيدا في أزقة الكوفة، إلى أن امسكه ابن زياد وقتله.، قال ابن كثير" اخذ عبيد الله بعض الأمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجي إلى ابنها وأخيها وتقول له ارجع إلى البيت الناس يكفونك ويقول الرجل لابنه وأخيه كأنك غدا بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟ فتخاذل الناس وقصروا وتصرموا وانصرفوا عن مسلم بن عقيل حتى لم يبقى إلا خمسمائة نفس ثم تقالوا حتى بقي في ثلاثمائة ثم تقالوا معه ثلاثون رجلا، فصلى بهم المغرب وقصد أبواب كندة فخرج منها في عشرة ثم انصرفوا عنه فبقي وحده ليس معه من يدله على الطريق ولا من يؤانسه بنفسه ولا من ياويه إلى منزله فذهب على وجهه واختلط الظلام وهو وحده يتردد في الطريق لا يدري أين يذهب" (5)
لماذا لم يقتل مسلم ابن زياد؟
كانت فرصة سانحة وتمثل مغنما عظيما لو انتهزها مسلم لاستولى على السلطة في الكوفة ومن بعدها البصرة ولتهيئ الأمر للحسين (ع) ولاجتمعت عنده العساكر من كل صوب وحوب لإسقاط دولة بني أمية وتأسيس دولة بني هاشم، جاء في بعض التواريخ " وقدم شريك بن الأعور شاكيا فقال لهاني: مر مسلما يكون عندي فان عبيد الله يعودني، وقال شريك لمسلم: أرأيتك أن أمكنتك من عبيد الله أضاربه أنت بالسيف؟ قال: نعم والله، وجاء عبيد الله شريكا يعوده في منزل هاني وقد قال شريك لمسلم إذا سمعتني أقول: اسقوني ماءا فاخرج عليه فاضربه، وجلس عبيد الله على فراش شريك وقام على رأسه مهران فقال: اسقوني ماءا، فخرجت جارية بقدح فرأت مسلما فزالت، فقال شريك: اسقوني ماءا ثم قال الثالثة: ويلكم تحموني الماء اسقونيه ولوكانت فيه نفس، ففطن مهران فغمز عبيد الله فوثبب، فقال شريك: أيها الأمير إني أريد أن أوصى إليك، قال أعود إليك.... (6)
يقول ابن كثير موضحا هذا الخلل المفصلي الذي أودى بالثورة الحسينية " ومرض شريك بن الأعور وكان كريما على ابن زياد وكان شديد التشيع فأرسل إليه عبيد الله إني رائح إليك العشية فعائدك فقال شريك لمسلم أن هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس فاقتله ثم اقعد في القصر وليس احد يحول بينك وبينه فان أنا برأت من وجعي من أيامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها " ولما خرج ابن زياد سالما قال له شريك ما منعك من قتله؟ فقال خصلتان أما احدهما فكراهية هاني أن يقتل في داره وآما الأخرى فحديث حدثنيه الناس عن النبي (ص) أن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن" فقال له شريك : أما والله لو قتله لقتلت فاسق فاجرا كافرا غادرا" (6) البداية والنهاية ج8 ص 166
أن التكبر خصلة ،إلا إنها على المتكبر سلوك حميد، الكذب خصلة مذمومة ومرفوضة إلا إنها في بعض الأحيان واجبة ومطلوبة، أن الأخلاق نسبية وليست مطلقة، ولو أن مسلم(ع) قتل ابن زياد لكان قتل نفسا جبلت على قتل الأنفس المحترمة ولعق دمائها ، نفس لا تتورع عن الغدر والمكر والفجور في سبيل تحقيق مآربها ، فمثل هذه الأنفس ليس لها على الله كرامة وعلى عباده احتراما، جاء في السير " خرج رسول الله (ص)من منزل عائشة فاستقبله إعرابي ومعه ناقة فقل: يا محمد أتشتري هذه الناقة ،فقال النبي(ص) نعم بكم تبيعها يا إعرابي؟ قال: بمائتي درهم، فقال النبي(ص) ناقتك خير من هذا. قال: فما زال النبي(ص) يزيد حتى اشترى الناقة بأربعمائة درهم قال: فلما دفع النبي (ص) إلى الإعرابي الدراهم ضرب الإعرابي يده على زمام الناقة وقال الناقة ناقتي والدراهم دراهمي فان كان لمحمد شيء فليقم البينة.قال: فاقبل رجل فقال النبي(ص) أترضى بالشيخ المقبل؟ قال:نعم، فلما دنا قال النبي (ص) اقض بيني وبين الإعرابي.قال: تكلم يا رسول الله، فقال النبي(ص) الناقة ناقتي والدراهم دراهم الإعرابي، فقال الإعرابي: بل الدراهم دراهمي والناقة ناقتي فان كان لمحمد شيء فليقم البينة.... وهكذا ظل الإعرابي يأبى ألاذعان بحق النبي (ص) في الناقة حتى حكم النبي الكريم(ص) أكثر من ثلاث أشخاص حتى قال آخرهم" القضية فيها واضحة يا رسول الله لان الإعرابي يطلب البينة فقال النبي(ص) اجلس حتى يأتي الله بمن يقضي بيني وبين الإعرابي بالحق.قال: فاقبل علي (ع). فقال النبي (ص) أترضى بالشاب المقبل؟ قال:نعم، فلما دنا قال يا أبا الحسن اقض بيني وبين الإعرابي، قال:تكلم يا رسول الله.فقال النبي(ص) الناقة ناقتي والدراهم دراهم الإعرابي.فقال الإعرابي: بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي فان كان لمحمد شيء فليقم البينة.فقال علي(ع) خل بين الناقة وبين رسول الله(ص) فقال الإعرابي:ما كنت بالذي افعل أو يقيم البينة. فدخل علي (ع) منزله فاشتمل على قائم سيفه ثم أتى فقال خل بين الناقة وبين رسول الله (ص) قال: ما كنت بالذي افعل أو يقيم البينة. قال: فضربه(ع) ضربة فاجتمع أهل الحجاز على انه رمى برأسه وقال بعض أهل العراق بل قطع منه عضوا. فقال النبي(ص) ما حملك يا علي على هذا؟ فقال: يا رسول الله نصدقك على الوحي من السماء ولا نصدقك على أربعمائة درهم" (7)
يجتمع العامة ليلطمون ويضربون صدورهم حزنا على مصيبة الحسين (ع) ، وفي الواقع إنما هو تعبير عن إحساس جماعي بالذنب على عدم النصرة وتحمل المسئولية تجاه الحسين كقائد روحي وعرفاني وسياسي وأنساني، أن البكاء ليس سوى تعبير عن عقدة ذنب تناقلتها الأجيال المتعاقبة بدء بأهل الكوفة التي كانت وما زالت منطقة نفوذ لعلي وبنيه منذ قديم الزمان إلى يومنا هذا ، أن على الشيعة في هذا العصر أن يوجدوا مساحة للنقد العلمي الموضوعي التحليلي لواقعة ألطف وكافة محطات تاريخهم خاصة فيما يتعلق منها بالثورات السياسية والعسكرية ويتجردوا من العواطف الهوجاء والقيم الساذجة والعقائد المكبلة للفكر ، ليستخلصوا منها ما يمكنهم من السير في دروب الحرية والكرامة في الألفية الثالثة ، لم يكن رجال ثورة الحسين (ع) معصومين فان سلمنا جدلا بعصمة الحسين (ع) فان ما دونه من رجال الثورة ليس كذلك وفي مقدمتهم مسلم (ع)، لذلك لا بد من التحليل العلمي الموضوعي المتجرد من الأحكام المسبقة حتى يمكن التوصل إلى نتيجة تستخلص منها دروس وعبر على كافة المستويات، أن البكاء والعاطفة لن يغنم منها شي وسيبقى الشيعة يدورون في حلقات مفرغة وسوف يقع شيعة القرن الحادي والعشين في مطيات وعثرات أسلافهم، ما لم يتجردوا من سيطرة الدموع الساذجة ، أن البكاء تعبير عن الندم، والندم يدفع الذات إلى التمعن والتفكير ، وكلاهما يؤديان إلى استخلاص النتائج التي لا بد من تحويلها إلى مناهج عمل لمواصلة درب ابتدئ منذ مئات السنين في سبيل الحرية والكرامة والعدالة ، يقول الحسين(ع): لم اخرج بشرا ولا أطرا ولا مفسدا وإنما اطلب الإصلاح في امة جدي رسول الله، لآمر بالمعرف وأنهى عن المنكر" إلا أن أتباع البكاء الساذج(وما أكثرهم) حرفوا هذه الكلمات المضيئة عن معانيها الحقيقة وتفاعلاتها الواقعية وقالوا بان الحسين ذهب ليقتل بينما كان مسلم يجمع له السلاح في الكوفة !! وكيف يمكن للحسين أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في دولة شمولية عبثية دون تبؤ كرسي الخلافة؟ وكيف يمكنه ممارسة دوره في ظل وجود حاكم فوضوي متجرد من القيم والأخلاق كيزيد؟ إلا أن أتباع التيار الكوفي وما أكثرهم في هذا العصر يريدون أن تكون ثورة الحسين دمعة في عيون البسطاء لا ثورة في عقول وقلوب التائقين نحو الحرية والعدالة، إنهم يستغلون ثورة الحسين كمحطة تاريخية مفصلية وعقيدة دينية راسخة لترسيخ سلطاتهم المتجذرة في الشعوب الشيعية المغلوبة على أمرها،فتحول الحسين إلى بكاء ودموع وتاهت قيم الحرية والموضوعية والتجريدية والعدالة والمساواة والسعي نحو الأهداف الإنسانية بين دموع البسطاء واستبداد المستبدين الحاكمين في المجتمعات الشيعية.. إنما لطلب الإصلاح في امة جدي لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ..انه هذه الكلمات هي لب المعادلة وغاية الغاية ومعالم الدرب الطويل نحو الحرية...
*******************
(1) مقتل الحسين(ع) لابن مخنف
(2) المصدر السابق
(3) نفس المصدر
(4) المصدر نفسه
(5) البداية والنهاية ج8 ص 187
(6) مقتل الحسين لابن مخنف
(7) الانتصار الشريف المرتضى ص 489