بالرغم من ان لي موقف ضد عبد الناصر ولكن اقرؤا ما كتب اسامه انور عكاشه
أسامة أنور عكاشة (الكاتب المصري) 22/01/2007
أعرف أنني أسبح ضد التيار الجارف الذي يدفع مياهه أمواجا تغمر العقول وتطمر المنطق وتحيل الساحة إلى شادر عزاء ومحزنة و مناحة منصوبة على تنفيذ حكم الإعدام في الرئيس العراقي السابق صدام حسين.. وأعرف أن سباحتي هذه ستعرضني لسهام تطلق على من كل صوب في كوكتيل الاتهامات المعهودة وأولها التنكر للقومية والعروبة وآخرها العمالة للأمريكان.. وربما الإسرائيليين أيضا.
والأمر لا يهمني حقيقة لأنني أدرك تماما أن الوعي الوطني الحقيقي سيزن الأمور بميزان الموضوعية المجرد من الهوى.. وأنا أدرك أيضا أن هيستيريا استشهاد صدام لن تلبث أن تنجلي عن تغليب العقل والكف عن أسلوب الصراخ ولطم الخدود ثم يأتي في النهاية دور التحليل الهادئ الرصين الذي يضع الأحداث في سياقها المنطقي والطبيعي..
وكان بإمكاني أن اكتفي بالفرجة.. وألتمس العذر لمن تملكهم الهياج الانفعالي تحت تأثير صدمة المشهد السوقي الجارح لإعدام الرجل صبيحة يوم العيد.. لولا أن انهالت التعليقات والكتابات الصحفية المتشنجة والصيحات والهتافات من حناجر محترفي التهييج والتحريض الغوغائي.. وللأسف كان بعض متصدريها ممن ينتمون تنظيميًا للتيار الناصري.. أو من عدوا دائما من الفصيل المنضوي تحت لواء الأفكار والأدبيات الناصرية.. وانزلق بعضهم ربما تحت تأثير الحماسة أو الخضوع لمشاعر القطيع إلى درجة تشبيه صدام حسين بجمال عبدالناصر مشايعين للزعم الذي كان صدام نفسه والبعثيون من رفاقه هم أول من روج له.. حين ادعى الناصرية في بدايات رحلته وتخطيطه للصعود ثم لم يلبث أن عرض نفسه كوريث للزعامة الناصرية التي كانت تقود العالم العربي بأسره متوهما أنه يستطيع ملء الفراغ العملاق بمجرد الادعاء وإطلاق الألقاب الفخيمة من قبيل الزعيم الأوحد والزعيم الضرورة وقائد النشامى.. وكبير الأشاوس.. وحارس البوابة الشرقية وصاحب القادسية الجديدة ونعلم جميعا إلى أي شيء أدت هذه الادعاءات والفرقعات اللفظية بدءا من شن الحرب على إيران.. واحتلال الكويت وجلب الأمريكان وجيوش التحالف في عاصفة الصحراء.. ثم تجويع أطفال العراق وفي نفس الوقت بناء القصور الرئاسية واستمطار اللعنات من السماء على الأمريكان.. ثم تمهيد الطريق للغزو الأمريكي المباشر والفرار من بغداد وتركها مفتوحة ليدخلها الغزاة دون طلقة مقاومة واحدة.
ويجيء بعد هذا من يزرف دموع عبد الناصر على قبر صدام حسين.. ويا للعار!.
أهكذا تحيون ذكرى جمال عبدالناصر بتشبيهه بصدام؟ ثم تدعون بعدها أنكم ناصريون أو أوفياء لنهج عبدالناصر؟!.
والأستاذ الفصيح ذرب اللسان الذي وقف يهتف مساويا ومضاهيا ومدعيا: ما أشبه شهيد العراق بعملاق مصر.. والآخر محترف الهتاف الحنجوري الذي يتقلب كل يوم على فراش أبطاله أرباب السلطة مرة وأعدائها مرة ويوزع خطاه.. خطوة معك وخطوك ضدك.. الذي عبس وعقد حاجبيه واستنفر كل دمائه المنتفخة بها أوداجه ليعلن أن صدام قد أصبح شهيدا ورمزا وتفوق على كل زعامات العرب في العصر الحديث.. وقد يحلو لنا أن نتناول الكلام من جانبه الفكه فنضحك ونتبادل الهمس عادته ولا حايشتريها؟ ولكن الأمر في حقيقته يدعو للحزن والكآبة لأن الرجل يصر في كل مناسبة على ترديد انتمائه لعبدالناصر والناصرية ومصدر الحزن والكآبة ليس صاحبنا هذا وحده ففي تياره يسير معظم الرفاق الذين خلطوا في سذاجة منقطعة النظير بين عبدالناصر.. وصدام حسين! فكانوا تماما كالدب الذي سحق رأس صاحبه بحجر ليبعد عنه حشرة يخشى أن توقظه من نومه. ولم يحاول أحدهم أن يسأل نفسه: ما هي أوجه الشبه بين الرجلين غير أن كلا منهما حكم شعبه بمفرده.. وإذا كانت الشرعية الثورية قد أباحت لعبدالناصر أن يؤجل البند المتعلق بإقامة الديمقراطية السليمة في أجندته.. كتاب فلسفة الثورة، فما هي الشرعية التي استند إليها صدام حسين؟ ونعلم أنه لم يحكم بعد سقوط الحكم الملكي مباشرة لنبرره بالشرعية الثورية أيضا.. ألسنا بهذه المقارنة العرجاء غير المستقيمة نؤكد أن التشابه المزعوم ليس إلا اتفاقا في صورة الديكتاتور ومنهجه؟ ألم سمع من كل أعداء عبد الناصر عبارة: الناصريون يبكون صداما لأنه يحاكى النموذج الناصري؟
ونعود مرة أخرى لنتساءل ما هي أوجه الشبه بين الرجلين؟
هل قاد عبدالناصر حربا ضد جار مسلم؟.. هل احتل ليبيا أو السودان مثلا؟.. هل اضطهد أي مصري يختلف طائفيا أو دبر مذابح للأقباط أو أهل النوبة؟ هل أطلق عبدالناصر الغازات السامة على مواطنيه؟.. هل هناك في سجل الحكم الناصري أسماء مذابح كالتي جرت في البصرة جنوبا أو في حلابجة شمالا؟ وكم قصرا بنى عبدالناصر لنفسه؟.
قال أحد الصحفيين العرب الموالين للحكم الصدامي في العراق وهو صحفي مشهور بالعمالة القابضة إن صدام انتصر على الفرس.. بينما هُزم عبدالناصر أمام الإسرائيليين وقد أورد هذا في مقال نشره منذ سنوات بادئا حملة لتقزيم دور وحجم عبدالناصر لصالح تأليه وتفخيم صورة صدام.. ومنذ عامين فقط كتبت له ما يشبه رسالة مذكرا إياه بأن عبدالناصر لم يترك القاهرة ويفر ويتركها للإسرائيليين وهم على وشك عبور القناة في العام السابع والستين من القرن الماضي.. وكنت أعلق على سقوط بغداد بالسهولة التي أذهلت كل من صدقوا زعم النشامى ووزير إعلامه الصحاف.
وأعلم أن عقد المقارنة في حد ذاته خطأ جسيم في زمن تردى فيه العرب إلى أعمق هوة يتمناها لهم أعداؤهم، ولكنى أردت فقط أن ألفت أنظار السادة الذين يحترمون جمال عبدالناصر وهم كل المصريين: من أحبه ومن عارضه، أن المسافة التي تفصل بين عبدالناصر وبين صدام أبعد كثيرا من المسافة التي تفصل بين الكواكب في المجموعة الشمسية.. وأنا لا أريد أن ألوم من أحزنه إعدام صدام أو أنكر عليه حقه في البكاء والعويل.. وأرى أن من حقه أن يتلو قصائد الرثاء المطولة في مأتمه.. فقد يخضع التاريخ السياسي لأي حاكم للاختلاف عليه.. ولكن أن نسوى بين الثائر والسفاح فهذا نوع من التضليل أو التغرير واستغلال عواطف البسطاء لتزوير وعيهم.. ولا يجمل بنا أن نقع في هذا الفخ.. وأذكر أخيرا حوارا دار على شاشة إحدى الفضائيات العربية في برنامج إخباري قال فيه الضيف، وهو مفكر لبناني معروف، إن عبدالناصر هو الذي منع عبدالكريم قاسم في أول الستينيات من احتلال الكويت، وأنه لو كان موجودا في العام التسعين لما تمكن صدام من اقتراف حماقته في غزو الكويت.. وإذا بالمحاور الآخر يعقب قائلا: لو كان عبدالناصر موجودا في التسعين ما كان هناك أصلا من يدعى صدام حسين.
لكننا تعودنا في تراثنا العربي أن نترحم على الراحلين جميعا.. وليتنا نفعل.. فقط علينا أن نحذر الخلط والوقوع في خطيئة الدببة!.