 |
-
دورة العنف النفسية والاجتماعية
دورة العنف النفسية الاجتماعية
خالص جلبي
قتل عدي وقصي على يد الأمريكيين في 22 يوليو 2003 فشربا من نفس الكأس التي أذاقاها لعشرات الآلاف من الناس. وكان من المفروض إلقاء القبض عليهما وتقديمهما لمحاكمة مع محام يتولى الدفاع عنهما حتى يخرج العراق من حكم الغابة إلى القانون. ولكن امريكا عالجت القتل بالقتل. ويبدو أن الطغاة يخضعون لنفس القانون النفسي فلا يؤمن أحدهم ولو رأى تسع آيات بينات حتى يدركه الغرق فيقول آمنت كما آمن فرعون؟
ولفهم ما يجري في المنطقة العربية لا بد من تحليل (الدورة النفسية) للعنف.
إذا خضع المجتمع (للقوة) تعطل العقل واعتمد (العنف) سبيلاً للتحكم. و(العنف) يقود إلى (الإكراه). والإكراه يقود إلى (الخضوع) المقترن (بالخوف). والخوف يقود إلى (الكذب). والكذب قشرة خارجية تخفي تحت قناعها (الكراهية) المبطنة. والكراهية تقود إلى (العنف) مجدداً.
وهكذا نرى دائرة ملعونة مغلقة من خمس حلقات تبدأ بالعنف وتنتهي بالعنف. على الشكل التالي (عنف ـ إكراه ـ خوف ـ كذب ـ كراهية ـ عنف).
والعنف يتغذى بالقوة وليس بالفكر.
وهكذا يمكن تصور حلقة النقطة المركزية فيها هي (القوة) مثل الشمس ودوران الكواكب حولها. ويدور على محيط الدائرة خمس قوى تتبادل التأثير وتغلق على شكل دائرة من العنف المكرر المعاد المدمر. فيحتقن المجتمع بالرعب والذل والفقر كما هو في جمهوريات الخوف والبطالة.
وهذه الحلقة الملعونة يمكن كسرها إذا اعتمد (الحب) بدل الكراهية وتحتاج (لتربية). والتربية تقود إلى (تحرير) الإنسان من علاقات (القوة). واعتماد (العقل) بدل قوة العضلات وإرهاب السلاح. بحيث يسبح الإنسان في دورة جديدة من علاقة الحب والسلام. ويمكن رسمه على الشكل التالي (اعتماد العقل ـ الحوار ـ التفاهم والاندماج ـ الحب ـ السلام) والسلام هو ذروة السعادة. ويلاحظ أن كلاً من (الدورتين) تزداد اتساعاً وكثافة فالكراهية تستجر الكراهية فتصبح حقدا مؤصلاً. ومشاعر الكراهية هي نفي للآخر وتدمير للطرف المقابل، في حين كانت مشاعر الحب مشاركة. والحب هو حب (الآخر) وهو 11 درجة حسب تقسيمات الثعالبي في فقه اللغة من الهوى مرورا بالعشق وانتهاء بالهيام.
وإذا كانت الكراهية تعني التدمير والقتل فإن مشاعر الحب هي احترام الآخر والاندماج فيه وتحقيق رغباته بكل سرور.
والزواج هو مؤسسة الحب والاندماج. ومن هذه المؤسسة يأتي الإنسان فتنمو ويصبح الاثنان ثلاث ورباع وخماس. ويزيد في الخلق ما يشاء.
هناك أسئلة محورية في الحياة تستحق أن تطرح، منها: ما هو الشيء الذي يستحق أن يعيش له الإنسان أو يموت من أجله؟ ويختصر الجواب بكلمة واحدة: الحب. والأنبياء جاؤوا بمبدأ (الحب). «والذين آمنوا أشد حباً لله». ومع الحب السلام. ومع السلام الأمل ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
وأحياناً تطوق الإنسان مشاعر سلبية. ولكن يجب أن لا تستبد بنا اللحظة. وليست كل الفصول شتاءً. والحياة في حالة صيرورة وتدفق. «ويخلق ما لا تعلمون».
ولكن السؤال الكبير هو كيف يمكن تربية الإنسان على عدم الرضوخ للقوة؟
يقول (توينبي) المؤرخ البريطاني أن الحضارة هي عملية إبداع الأقلية. ويرى (برتراند راسل) في كتابه (السلطان) أن المجتمع البشري يضم في العادة صنفين من الناس. نادرون يتسمون بالحكمة والشجاعة وهم القادة. ولكن الأكثرية مقلدون لا يستعملون عقولهم إلا قليلا وعليهم الانصياع والاتباع.
ويرى (توينبي) أن الحضارة تولد بوثبة من القوة تحققها الأقلية الإبداعية فتمشي خلفها الأكثرية كما يمشي القطيع خلف الراعي بأنغام المزمار. ولكن الحضارة تنهار حينما تنضب الطاقة الإبداعية عند الأقلية. فتتوقف الأكثرية عن المحاكاة فتلجأ الأقلية تحت شعور كاذب أنها ملكت قدر التاريخ فتسوق الناس بسوط الإرهاب. عندها ينشق المجتمع ويتفسخ وتتحول الأقلية المبدعة إلى أقلية مستبدة مكروهة تنتظر دورها للقضاء عليها وكنسها إلى مزبلة التاريخ.
ولكن كيف يمكن إلغاء (القوة) كمؤسسة مركزية في بناء المجتمع؟
يرى (برتراند راسل) في كتابه (السلطان) أن الجنس البشري انتقل من فوضى الغابة إلى استبداد الدولة كخيار افضل. ولكن الأفضل من الاثنين هو الحكومة العادلة.
وفي قصة معبرة عن الحكيم (كونفوشيوس) أنه مر على قرية فرأى امرأة تبكي بحرقة على زوجها فأرسل أحد تلاميذه يسألها عن المصاب؟ قالت: لقد أكل النمر زوجي وقبل فترة أكل والدي أيضاً؟ تعجب كونفوشيوس منها وقال: ولماذا .. لماذا لا تغادرين هذه الأرض التي يفترس فيها النمور البشر؟ قالت: لأن فيها (حكومة عادلة)؟! التفت الحكيم إلى تلاميذه وقال: انظروا أيها التلاميذ إن الحكومة الظالمة أشد خطراً على البشر من النمور المفترسة؟
ويبدو من ناحية علم (الأنثروبولوجيا) أن خطأ جوهرياً حدث مع قيام الدولة كما في علم الطب التي اكتشفت الآثار الجانبية لاستخدام العقاقير. ونحن نعرف من حبوب (الفياجرا) أن صاحبها قد لا يصل إلى شاطئ المتعة بل وهدة القبر.
وفي الدولة تم (احتكار) آلة العنف بيد الأقلية مقابل توفير (الأمن) للأكثرية. ومع الأمن عاش الناس وتابعوا حياتهم ولو في ظل أشد الأنظمة استبداداً. ومع احتكار العنف بيد الأقلية ولد مرضان خطيران للدولة: الحرب والطغيان. والأنبياء جاؤوا تحديدا من أجل التخلص من هذين المرضين.
مع هذا فنحن لم نتقدم كثيرا لفك هذا التناقض في بناء الدولة المثالية وهي كيف يمكن إنتاج الإنسان المحرر من علاقات القوة؟ فالشرطي المسلح بمسدس لفك خلافات الناس في النزاعات يتقلص دوره حينما يتفاهم الناس. وتفاهم الناس يأتي من الوعي. والوعي يشحذ وينمو بالعلم. ولذا فإن تعليم الناس يحرر الناس. ولكن ليس أي نوع من العلوم. فمن ملأ بيته بكتب السحرة لم يصبح رجل علم بل ساحراً يمارس الشعوذة. ومنه أشار (الكواكبي) في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) أن (العلوم الإنسانية) هي التي تحرر الوعي وتعتق الإنسان من الخضوع للجبارين: «فالمستبد لا يخشى علوم اللغة المقومة للسان ..ولا يخاف من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة. ولكن ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الفلسفة العقلية وحقوق الأمم وسياسة المدنية والتاريخ المفصل الممزقة للغيوم المحرقة للرؤوس» «وهو يرى أن المستبد لا يخاف من العلوم كلها بل من التي توسع العقول وتعرف الإنسان ما هو الإنسان؟ وما هي حقوقه؟ «لأن للعلم سلطانا أقوى من كل سلطان». وهو يرى أن هناك تناقضا جوهريا بين العلماء والمستبدين: «يسعى العلماء في نشر العلم ويجتهد المستبد لإطفاء نوره والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا» ليصل إلى تقرير «والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشيء عن الجهل».
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |