النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    المشاركات
    165

    افتراضي المرجعية والمواقف الصريحة ..

    د .صالح الظالمي

    المقدمة

    سيدي يا ابا رضا انك تبتعد عن الاضواء مهما كلف الأمر، لا تدخل حجرتك المتواضعة آلة تصوير، وتستنكر رفع صورتك في أي مكان، واذا قرأ الخطيب في بيتك لمناسبة تتعلق بآل البيت عليهم السلام فلا يحق له ان يدعو لك، بل يكون الدعاء لجميع الحاضرين من دون ان يذكر اسمك، وأعرف تماماً انك منعت توزيع ما كتب عنك (نبذه مختصرة عن سماحة السيد علي السيستاني)، كل ذلك قد تراه (ترويجاً) لمرجعية والمرجعية لا تحتاج له.



    ما بين يدي هذه الصفحات المعدودة لو قرأتها لو فضت ما فيها من مديح، على ان الواقع الذي لمسناه وبلا مبالغة فيه، ولعلي سأتركه إلى الوقت المناسب حين تباغتنا الاقلام المشبوهة لكتابة التاريخ، أيدك الله تعالى وسدد خطواتك انه سميع مجيب.



    تعال معي لتقف بخشوع امام بيت متواضع، ليس فيه يثير انتباهك غير الالتواء المعرف في مدخله، وغير جدرانه المتآكلة التي تكاد تتساقط لولا العناية المتأخرة بترقيعها، واخفاء اضالعها المهشمة بطلاء كان له الفضل بإخفاء كل عيب مسته أصابع القدم.

    في الجانب الايمن غرفة لم تعرف ما مساحتها، وما فيها،وما هي قطع الاثاث التي تحتويها؟ ثم سرعان ما تغيب عن عينيك، أو قل ستنسى كل ما رأيته في البيت حين يقع بصرك على رجل وقور يتكئ في إحدى زواياها،

    وانت تقترب منها تحس بأن شيئاً ما يقيّد خطواتك، وحين تتماسك لتقول ما تريده، أو لتسمع منه فستشعربأنك أسير هيبة لم يكن بمقداروك الافلات منها، فمن سبقه من المراجع كنت تنحني أمامه لما يتمتع به من قدرة هائلة بكل ما تتطلبه منه المرجعية في حياته من علم ومعرفة،... أمام هذه الشخصية، ففي هذه اللحظة الاولى ستملأ كل جوانبك بشئ يقال له (الروحانية) وقد تفصلك عن حياتك، وربما تصنع حاجزاً ثقيلاً أمام كل تصوراتك، وما تحمله من كثافة المادة التي تثقل حركتك حين تعتزم المسير، وأنت أمامه كذلك تحس بأنك في عالم آخر، أو أنك تعبر إلى مرفأ آخر لم تمره من قبل، انك الآن تتحظى مسلكاً يأخذك نحو العالم العلوي، تم تطرق خجلاً وأنت بين الانتشاء والذهول.

    السيد السيستاني بكل ما فيه معجب، ويزذاذ عجبك منه كلما التصقت به، ففي كل يوم يطلع عليك بما يبهر، ولنبدأ بما يدور حواليه.



    مقام المرجعية:

    هذا المنزلق الخطير الذي يتهيبه كل من يريد الولوج فيه، فقد يبتعد عنه من لا قدرة له على ثقل الامانة، وقد يتقبله من يفرضه عليه الواقع المرير، لكي لا تخلو الساحة من القائد الذي يحمل بين كفيه ما يبدد تحشد الظلام ، ليقف بعدها مرشداً أمام الجماهير المؤمنة بثقة عالية أزاء الشعور بالمسؤولية.

    أعاود انه منزلق خطير، فالقائد هنا لا شك بأنه يدرك تماماً ان جميع تصرفاته ستوقفه للحساب أمام من بيده الحساب، اذاً لا بد له من ان يكون (مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه) كما نطقت بذلك أقوال آل البيت عليهم السلام، فهو سيقول وسيتبع اقواله من يهتدي برأيه، ولا بد له بذلك من ان يتخطى مرحلة الاجتهاد ليصل الى اختيار الرأي باطمئنان، كما عليه ان يتابع اثناء مسيرته الحياتية شتى العلوم التي تقوم عليها حياتنا المعاصرة، ومن خلالها يستطيع التعامل مع العالم الذي يرتبط بنا في مجال الاقتصاد وتبادل الثروات والخيرات، ثم التطورات السريعة في العلوم الطبية التى تكون لها صلة بالشريعة، وحتى الافكار والمبادئ المستوردة التي يتلقفها الشباب المسلم في هذه المرحلة الراهنة، كل ذلك يدركه بوعي وبصيرة ثاقبة، ولا فرق عنده في الموضوعات التي يعرضها اثناء الدرس بين موضوع العبادات وبين مقاومة المحتل الذي يحاول تدنيس البلد المسلم في موضوع (الجهاد) كل ذلك يكون من بعض اهتماماته.

    السيد السيستاني بعد ان واصل مسيرته العلمية منذ البداية وحتى الآن كان على ما اعلم محل اعجاب لمن استمع اليه ودوّن آراءه المشبعة بالدقّة والاستيعاب، فهو يعنى بعلم الفلك كما يعنى بالفقه والاصول وعلم الرجال، ويتابع التاريخ ليتعرف على ما يصدره من ائمة اهل البيت عليهم السلام وما تحيط بهم من ظروف آنذاك، فكل قول يصدر منهم يكون رهين لحظة معينة لا يمكن تحديدها الا بالمتابعة الفاحصة لتلك اللحظة،... وهو يقرأ التاريخ كذلك يتلقى الدروس ثم يقارنها بالحاضر.

    وقد تعجب حين تسمع منه أنه قرأ أكثر من مائة كتاب عن الماركسية المادية، ويزداد عجبك حين يباغت (الاخضر الابراهيمي) بما كتب عنه (هيكل) في بعض اللقاءات معه، فتتحول نظرة الابراهيمي إلى الاستجابة الفورية لما يعرضه عليه، وقد يشترك مع رجل السياسة، واستاذ القانون وكأنه رجل سياسة واستاذ قانون.

    عرفنا عنه منذ البداية انه رجل أجمل ما يرتديه هو (لباس التقوى) وقد تأثر بآبائه أهل البيت عليهم السلام في نظرتهم للحياة، وانها الطريق الموصلة الى العالم الآخر{وان الدار الاخرة لهي الحيوان}.

    في بيته الصغير المتواضع (المستأجر) كان فيه رغد العيش، تقدم له الكثير ليستبدلوا هذا البيت بآخر يتناسب ومقام المرجعية ولكنه رفض وأغلق الابواب، وسمعت منه وسمع منه الكثير قولته (أنا واولادي لا نضع حجراً على حجر في هذه الدنيا، وسوف نعافها ولا نملك فيها شيئاً )(1).

    هذا الموقف الذي اتخذه سماحة السيد قد لا ينسجم مع واقعنا الذي نعيش فيه، ولكنه لا يعبأ بكل مغريات العصر، ما دام يسترجع الماضي البعيد لدى جده الامام علي عليه السلام بعد ان اضطر الى قيادة الامة حين اتعبها المسير في دروب تضيع فيها مواقع الاقدام،... في الكوفة عاصمة الدولة الاسلامية الجديدة، كان بيته الذي يقترب من بوابة المسجد عائداً لابن اخته، وهو لا يختلف عن بيوت الفقراء بقليل أو كثير، اهم ما يعتمد عليه غطاؤه الطيني المتماسك، لا أشك بأنه كان يحاذر من قطرات المطر المتساقطة عليه في اول فصل الشتاء، أو قل ان تلك القطرات هي التي كانت تحاذر منه لهيبة من يقبع فيه.

    لو قدر لك ان ترى بيت سيدنا السيستاني قبل عام، وكيف تزدحم في داخله مناكب الوافدين لما امكنك البقاء فيه اكثر من دقائق معدودة، ثم تنطلق الى خارجه لتعيد انفاسك، وتحمده تعالى على عودة العافية، كان خلف هذا البيت بيتان صغيران تحولا الى قاعتين تلتصقان به، ثم اعمارهما بطريقة (المساطحة ) على ان يعودا بعد عشر سنوات الى اصحابهما، لقد باركت هذا الحدث الجديد، وبارك غيري أمام (أبي حسن ) ولكنه لم يظهر عليه دلائل الرضا،قلت له وماذا حدث؟ أجاب: إن السيد الوالد بعد ان القى عليه نظرة قال لي : ( هذا لمن يريد البقاء في هذه الدنيا) وسكت.

    كان على علم بسلوك الشيخ الانصاري - رحمه الله تعالى - مؤسس مدرسة النجف الحديثة، حيث تقدم اليه من يحمل المال الكثير ليبدل المتداعي بآخر يكون صالحاً لمقام المرجعية، وعاد صاحب المال بعد حين، ويأخذه شيخنا الانصاري لمسجده المعروف، قال له: هذا خير لي ولك عند الله، ويموت الشيخ ويعقبه صاحب المال، ويبقى المسجد عامراً بمثل ما فيه وما زالت حلقات الدرس تعمره حتى يومنا هذا.

    ويتذكر سيدنا السيستاني - حفظه الله -، ما قام به آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وتحت وسادته الف واربعماية دينار، وبالسرعة يطلب احضار السيد محمد تقي بحر العلوم والحاج حميد منى، ليحملا المبلغ الذي طلبه السيد الخوئي، ويسأله السيد بحر العلوم عن سبب العجالة، ويجيبه الشيخ: أريد ان أموت وما في حقيبتي درهم يعود لغيري، والأعجب ان القدر لم يمهله اكثر من يوم واحد أو يومين ويموت وليس في بيته بريق لدرهم.

    كل ذلك كان يستوعبه سيدنا السيستاني، ويتعامل معه معاناة وتطبيقاً،... مرّ على العراق حصار مقيت، كانت نظراته لا تفارق الضعفاء من الناس، فهو يأكل كما يأكلون ويلبس ما لا تقع عليه العين.

    كان يقرأ:¬¬¬¬( كلو من طيبات ما رزقناكم)، وربما أعاد قراءتها مراراً ولكن سلوكه الخاص ونظراته لآبائه اهل البيت عليهم السلام، كان يبعده طواعية عن كل ما تحفل به مائدة الاثرياء.

    لك ان تدخل ولو فضولاً لترى الطعام بين يديه على غرار ما قام به جماعة من تجار بغداد في احدى ليالي شهر رمضان، وأكلو معه، وكان على بساطته اشهى طعام يجتمع عليه ارباب النعمة وأصحاب السلوك.

    قال لولديه، وكرر القول: لا يتجاوز مأكلكما ما في (الوجبة)، الوجبة التي تعدّها وزارة التجارة للمواطنين لتخفف بعض معاناتهم من قسوة الحصار، وقد التزم الولدان – على ما أعلم – بما يريده منهما الأب السالك العطوف.

    في احدى ليلي القدر أصر صديقي على دعوة ولده فضيلة السيد محمد رضا، وقد اجاب على مضض شريطه ان تقترب الدعوة من السرية لئلا تتكرر من قبل الآخرين.

    وكانت الدعوة، وكنت على مقربة منه، فلم يأكل الى ما اعتاد عليه، وترك ما يستطاب. ولم تنته الورطة، جاء صاحبنا بعد يومين واقترب من سماحة السيد، وعلى غير المعتاد اجلسه إلى جنبه بامتعاض، وسأله:هل قرأت ما كتبه امير المؤمنين عليه السلام لعامله عثمان بن حنيف حين دعي إلى مأدبة؟ أجابه صاحبنا – وقد عرفت مراده – الم تكن فسحة للعنوان الثانوي؟ ورد عليه بشيء من الانفعال، لا مجال للعنوان الثانوي، فكل الذي حوليك ليس لديهم غير الوجبة وسكت، وسكت صاحبنا على ان لا يعود لمثلها، وتبين له ان ولده عليه ان يخبره بكل ما يمر به.

    دخلت عليه وكان معي من يهتم كثيراً بالفقراء، وعند الوداع طلب منه صاحبنا ان يدعو له، قال له بصراحته المعروفة: ادعو لك ما دمت تساعد الفقراء، وكان على صاحبي ان لا يترك مهمته، والا فلن تكون له حصة من الدعاء.

    قلت له مرة: سيدي ما كنا نتصوره حلماً فمن الصعوبة ان يتحقق الا باحلام اليقظة، ما تقوم به يذكرنا بآل البيت عليهم السلام، فبيت المال بجانبك شبيه لما كان بيد جدك امير المؤمنين عليه السلام لولا فقدان (الشمعة)... الحقوق كلها بيد أصحابها ولا يحق ان تمر ببابك، وسألت الله تعالى ان يمد بعمره وسكت، ثم نظر اليّ وقال، وسمع صاحبي معي قولته: (لقد شتمنا من قبل حتى أبناؤنا، فلا ندعهم يواصلون شتائمهم، أبعدنا الله تعالى عما لا يرضيه) وكان يشر بكلمة (أبناؤنا) إلى قصيدة الجواهري (الرجعيون).

    ونعود الى الفقراء، فهم اول من يشغل باله، وأكاد أجزم ان انشغاله بهم كان هما لا يبارحه حتى في لحظات النوم، .... طلب منا ان نعد قائمة باسماء المتقاعدين، ومثلها لكل الموظفين الصغار في البلدية والبريد والصحة وغيرها، وكان له ما اراد على ان لا يعلم من هو صاحب القرار.

    من يدري بان أكثر من الف بيت تم بناؤه بشكل تام، أو اضافة جديدة له، أو ترميمه ليكون صالحاً للسكن، كل ذلك كان على يد (أبي بان)(1) ومعها متابعة المرضى داخل النجف وفي جميع المستشفيات، اما في خارجها، ولا سيما ما يتعلق بزرع (الكلى) فلها المرتبة الاولى عنده، فقد قال لي يوماً هذا الأمين(2) الذي يقع عليه هذا العبء، بأن عدد الذين لديه هم ثمانية، ولم اعرف عدد الذين تّمت لهم هذه العملية المعقدة.

    بدأ المرحوم الحجة الشيخ محمد أمين زين الدين بدفع رواتب قد تكون مجزية الى العوائل المتعففة حسب تعداد أفرادها، وكانت البادرة هذه مبعث اطمئنان لاولئك الذين كان جل تفكيرهم ان يبيعوا من الأثاث ما هو ضروري ليسدوا بعض حاجاتهم، وجاء دور سيدنا السيستاني، وكان ما كان ولحد الان، ... وما يقوم به (السيد حسين الصدر) في بغداد وضواحيها من رواتب للمتعففين وما يحتاجه المرضى من عمليات ومراجعة الاطباء فقد تزايد وتزايد حتى بلغ الآلاف، وسنجد مثل هذا في اكثر مدن العراق.

    لك ان ترصده من قريب او بعيد حين يمر بجانبه شبح لدرهم فسترى كيف يتم اعراضه عنه، فلا يفكر اطلاقا بما يأتي، بل يؤكد على ازاحته إلى مستحقيه باقصى سرعة ممكنة،.... المستحقون اولئك الذين يعيشون معه في كل لحظاته المتعاقبة.

    سمعته وسمعه مثلي مراراً في تلك الفترة الخائفة يقول: انا مستعد ان أدفع الأموال على ان توزع على الفقراء باسم رئيس الدولة شريطة ان تصل لأصحابها، ولكن ذلك لا يمكن تحقيقه ابداً في ذلك الوقت. ولم يقف عند هذا الحد، فهو يطلب صرف الحقوق الشرعية على النازحين في افغانستان إلى ايران، ولا فرق بين هذه الطائفة أو تلك، وربما اجاز – كما سمعت – صرف تلك الحقوق لمقاومة المحتل الظالم للبلد المسلم.

    لقد قدم الكثير من الاموال لترميم المدارس والمستشفيات واعادة هيكليتها، وكذلك كانت يده الشريفة تمتد للجامعات والمعاهد بعد ان تعرضت للنهب والتدمير لتعيد لها ما فقدته من أجهزة وأثاث.

    واذا كان سماحة الحجة الشيخ محمد رضا آل ياسين قد أجاز صرف حق الامام لشراء كتب الادب واقتنائها عند رجل الدين، فقد اضاف سيدنا السيستاني صرف هذا الحق على طلبة الدراسات العليا في الجامعات شريطة ان يقوم الطالب بخدمة البلد فيما بعد.

    وقد تريك مرونته في فهم الاسلام وتعاليمه ما يبعث على تسامي الخلق الاسلامي حين يجيز لك الصرف على (الكتابي) المضطر الى المال (المسيحي واليهودي).

    وقد انفرد في هذه الفترة الاخيرة ازاء صرف الحقوق من قبل اصحابها ومن دون الرجوع اليه، وقد رأيت أحد الاطباء وهو يعود بحقيبته المثقلة على ان تصرف من قبله على المرضى، وما زاذ على الحق فسماحته – حفظه الله – هو الكفيل بدفعه له مهما كان مقداره، وهكذا الامر مع بقية الاطباء.

    هذا هو سماحة السيد السيستاني، ولو سمح لي ان اذكر الآخرين ما قد نسيه وهو فتى يدخل عش الزوجية، وكل ما في ذلك العش لا تلاحقه النظرات لبساطته، ومن أظهر ما فيه تلك السجادة الوحيدة التي أكملت بقية الاثاث، وبعد اسبوع أو اكثر تركها لصديق كان الاحوج اليها في يوم زفافه، وتحولت السجادة لبيت العريس الجديد وعياله تبارك له هذه الخطوة.

    سيدي دعني ادعوك وما يحيط بك، وانا اشكره تعالى شكراً لأحد له لعنايته تعالى بهذه الطائفة الحقة ونحن بحاجة في هذه الفترة إلى من ينهض بثقل الامانة ويقف بعدها شامخاً تعلوه كلمة (لا اله إلا الله)، فلك الحمد يارب ولك المنة.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    المشاركات
    165

    افتراضي

    المرجعية .. والمواقف الصريحة : السيد السيستاني ... نموذجاً - 2

    كتابات - د.صالح الظالمي



    مع النظام البائد:

    تجمعت حوله المصائب بكل ما تحمله من عنت، عاش في تلك الايام الشاقة ولكنه لم يعبأ بها، بل كان اشد صلابة كلما تأزمت المواقف،... فقد انتقل من فندق (السلام) في النجف الاشرف إلى معسكر (الرزازة) ومنه إلى معتقل (الرضوانية) المرعب، وكان شبح الموت يلاحقه في جميع المراحل، ثم عاد الى النجف محاطاً بالعناية الالهية، كان رهين بيته ولم تبارحه نظرات المجرمين ازاء كل حركة يقوم بها هو أوكل من له صلة به، وكادت تقع الكارثة بعد ان اغتيل كل من الشيخ (البروجردي) والشيخ (الغروي) رحمهما الله.

    دخل بيت السيد من يحمل الشرّ كل الشرّ لهذه الامة، ونجا السيد، واطلقت النار على ولده (أبي حسن) ولولا سقوطه على السلم، ولولا انفجار المسدس بيد صاحبه لكان ما كان، وبعناية ربانية سلم السيد وانحرف الخطر عن ولده واستشهد احد العاملين، وفي لقاء تم بين المحافظ (العوادي) والسيد عدنان البكاء، قال له: ان المستهدف الاول هو السيد السيستاني.

    ولم تقف ملاحقة المجرمين له ابداً، فالمخابرات اخذت مقراً لها قبالة داره، ودفع النظام وجوهاً جديدة إلى وسط الساحة لتأخذ مكانها بين اوساط الحوزة المشبوهة، ودعمها بالمال والاعلام، وكل من في النجف يتذكر ما قام به المحافظ (كريم حسن رضا والسيد ع، ن، ح) الذي كان ييصل يومياً ب(روكان) المسؤول عن رجال الدين وزعماء العشائر آنذاك في الساعة الثانية عشرة، هكذا اخبر المحافظ (علي عبد الكريم السعدون) الشيخ احمد البهادلي، وطلب منه ان يحذر من (ح) وكان (ح) يجتمع يومياً في بيت (الشيخ ج، ك) وتتوالى علي الطلبة الجدد ويأخذهم لكي يدخلو في صفوف الطلبة (الحوزة) وحين تسأل الشيخ (ك) فسيجيبك ان هؤلاء من حصة المخابرات.

    ولا يفوتنى ان أذكر ان المحافظ (السعدون) وقف وقفة شريفة أرادو دمج (جامعة النجف الدينية) بالمدارس الأخرى لتكون تحت تصرف مرجعية واحدة، وكان السبب على ما علمت – هو (ع، ح)، جاءت اللجنة وكادت تنهي العملية، وبعد لقاء تم بين (علي السعدون) والسيد (كلنتر) وذهب الى بغداد وعاد بأمر يتضمن استقلاليتها على حالها.

    وكلنا يتذكر ما قام به المحافظ (كريم حسن رضا) من اللقاءات المتعاقبة لمشايخ النجف ووجهائها كان اكثرهم يحضر عملية الاعدام للهاربين من العسكرية ولو ليوم واحد، وكان السيد (ع، ك) يقرأ التلقين لهؤلاء الشباب وتتصاعد الزغاريد من (الماجدات) وتتم عملية الاعدام بأمر من عضو القيادة (عبد الحسن راهي)، وكانت احدى هذه العمليات ليلة عيد الفطر والتجمع من قبلهم حول تلك الوجوه لتتمكن من احتواء المرجعية الواقعية واذابتها، ففي كل يوم ينتصف في كل منعطف مرجع ديني جديد، وكأن المرجعية تتوقف على (حقنة) واحدة مشحونة بسائل لا لون له ولا طعم من (صيدلية الشريعة)!! وما عليه بعد ذلك الا ان يأخذ شريطاً من القماش يتعصب به فوق جمجمته الفارغة.

    وهنا بدأت المشكلة، المراجع كثر، وابناء الطائفة على جميع المستويات لا تكاد تتفهم ارتباطها بالمرجعية، فالواحد منهم حين يمرض يتحرى الطبيب المختص ليطمئن اليه في العلاج، وفي احتياجه لأمور دينه كان عليه ان يأخذها كذلك من ذوي المعرفة أو قل من العالم المختص، بالطرق الموصلة اليه، ولكنه – وبلا تريث – قد يرتبط بواحد من اولئك الجهلة، اما لأمر مادي، أو لموقف يعجبه منه، أو لغاية في نفسه، أو لرأي يستهويه فيه، وما يريده منه خالقه فلا يشغل باله أبداً.

    الكثير الكثير منهم لا يفهم من المرجعية الا ذلك الرمز الذي يشار اليه من بعيد ولا علاقة له بعد ذلك به، والكثير والكثير منهم من يقع حاجزاً حيالها، وتبقى علاقته بأشياء لا صلة بها بواجباته الدينية، وهؤلاء جميعهم تتحكم فيهم العاطفة ولا مجال للعقل في تصرفاتهم.

    طلبنا من المرجعية بعد سقوط النظام القيام بإعداد من يأخذ على عاتقه مسؤولية التبليغ، وكانت الفرصة متاحة في حينها لتشمل المناطق التي هي بحاجة الى من يأخذ بيدها نحو الامان، وتوقف الطلب، ولعل هناك ما يبرر ذلك اما لتزاحم الاحداث، أو كانت النظرة إلى ان الاهم يحق له ازاحة المهم لا ادري!!، وربما سيتحقق ذلك بعد ان تمر العاصفة بسلام.

    امتلاأت الساحة بالمراجع المزيفة، ولو قدر لك ان تطمئن بواحد من هؤلاء حين تراه يحمل كتاباً وهو في طريقه الى الدرس، ولكنه – وبعد أيام – تراه يتطرأ المرجعية من دون حذر، ويصيبك الاحباط حين تعثر على كتاب صادر من (الأمن العام) يذكر فيه تخصيص مبلغ لترويج مرجعيته.



    جاء أحد المؤمنين وهو يحمل مبلغاً للسيد السيستاني، ولكنه أخذ عن طريق الزبانية (لآخر) واكتشف أخيراً اللعبة، وأخذه من يرفع شكواه الى المخابرات الجاثمة امام منزل السيد، وكان الجواب منها (لا يحق لنا التدخل بين المراجع)(1).

    في وسط هذا المعترك المادي الساخن يقف السيد السيستاني صامداً، تطأ قدماه الارض، وعيناه مشدودتان بالسماء، يتألم لهؤلاء لانهم يسلكون طريقاً تأخذهم نحو الهاوية، وربما دعا لهم كي يعودوا إلى جادة الصواب.

    طلب منه الكثير ان يغادر مدينة النجف بعد الاعتداء الذي وقع في بيته، ولكنه لم يجب، ولم يسمح بتكرارالطلب، وربما كان واجبه الشرعي يحتم عليه البقاء عليه البقاء في هذه المدينة المقدسة، وان لا مكان للمرجعية في هذه الظروف الا هي، وفعلاً فقد بقي وبقى معه إصراره ونظرته المستقبلية الآتية، ولعل صفاء نفسه، وما ارتاض عليه من سلوك جعله يستشرق بالاتي، وجاء الآتي وتهرأ النظام، ولأمريكا سطوتها وسيطرتها على جميع المدن العراقية كاملة، واذا كان هناك أثر للمقاومة في مناطق الجنوب، ومنها النجف فقد بلغ عدد القتلى فيها أكثر من خمسمائة قتيل، وكانت مدن الشمال وغربي بغداد تهب مفاتيح تلك المدن للقادة الأمريكان كي تتخلص من الدمار والويلات لو أنها وقفت بوجه تلك القوات(1).

    القوات الامريكية ارتكبت خطأً فاضحاً – واعترفت به اخيراً – حين أطاحت بالجيش العراقي والشرطة وقوات الامن، وتركت الحدود العراقية مشرعة الأبواب مما سبب تجمع فلول النظام من جهة، ومن الداخلين الغرباء من جهة أخرى، ومن المتضررين، فكان للمقاومة أو العصابات الخطيرة نشاطها المنفلت احياناً والمنتظم أحياناً أخرى.

    الامريكان إذا دخلو العراق، وهم يصطحبون معهم (المعارضة) التي عاشت في المنفى لتأخذ دورها الذي وضع لها على خارطة العراق. وجاء هنا دور المرجعية.

    تجمع حول سيدنا السيستاني كل هذه المتناقضات، فماذا سيفعل؟ هذا الرجل ينحدر من اصل عربي لا، بل من مفخرة العرب من آل رسول الله (ص) وتنقلت اسرته حسب الظروف وكان مقرها الأخير ايران، لذلك قيل عنه انه ايراني، ولم يعلمو ان المرجعية لا تتحدد بهذه المساحة الضيقة، فاذا كان (البابا) من أصل بولوني فلا مجال لإستبعاده، أو عدم الاعتراف به من قبل الايطاليين وهو معهم، أو الأمريكيين وهو بعيد عنهم.

    السيستاني عراقي بل أشد عراقية ممن تحدر من (أكد) أو من بطون (آشور) يحمل على رأسه عمامة جده رسول الله (ص)، وفي داخله كل هموم العراق وسوف يتضح ذلك حين يتبدد الضباب.

    الأمريكان على شواطىء دجلة والفرات و(المعارضة معها يداً بيد) خاضعة ومستسلمة أمامها ما دام (الفيتو) سلاحاً قاطعاً بيد السيد (بريمر) بقي ان نتعرف على ما يدور بين أبناء العراق، المهم عندهم ان النظام الجائر اخذ طريقاً على ان لا يعود، وما خلفه من احباط قاتل قد لا ترى من خلاله بقايا امل لإعادة بناء هذا الانسان العراقي، وفي الوقت نفسه اخذ يفكر في أي حزب يذكر امامه، اما ما يشغله، هو لقمة العيش، ونعمة الامان، يريد ان يضع رأسه على وسادته من دون ان يمر بخاطره شبح مخيف يصحبه طوال ليلته التي لا تنقضي.

    المعارضة جلها لها طابع حزبي، فقد ضجت الساحات في كل انحاء العراق باللافتات التي تشيد بمن وراءها، وللشارع المضطرب وجهات نظر متباينة تماماً أزاء (المعارضة).

    1) في هذا المعطف من يرحب بهم جميعاً وان شملتهم عناية الامريكان ولا سيما من قتل منه أهله أو أقاربه أو من يمتون اليه بصلة.

    2) في هذا المنعطف الآخر من يكيل لهم الشتائم وبلا حساب، أما من كان له قتيل، فمن وجهة نظرهم ان هؤلاء القتلى لم يقفوا ثائرين بوجه الطاغية آنذاك، وقد شملتهم التصفية المقررة لكل أبناء الطائفة، فهم والمقابر التي ملأت الارض سواء بسواء، ومثلهم من تابعهم السلطات وقتلو اثناء صلاة الجمعة وبعدها المقاومة من قبل السيد محمد الصدر.

    فاصحاب هذا الرأي يريدون من المعارضة اولئك الذين يحملون السلاح بوجه النظام داخل العراق، فقد يسلم ويبقى عمله في الخفاء، وقد يحظى بالشهادة بعد ان قام بما يلزم، وقف المرحوم (عبد الصاحب دخيل) بجانب (ناظم كزار) وهو لا يهاب ما سيلاقيه، وأسمعه الكلمات الجارحة ثم كان مصيره الموت، وبقى ذكره في طليعة الشهداء الخالدين.

    وما تكلم به (عباس عجينة) أمام المحافظ (جاسم الركابي) ومدير الأمن (ابراهيم السيد خلف) صرخ بوجهيهما: (اننا ذاهبون غداً الى كربلاء مشياً على الاقدام وما شئتم فافعلوا) وخرج في اليوم الثاني وقتل، وقتل من معه.

    وما يثير الدهشة تضحيات اهل النجف الغياري في ثورة (1991) واعني باهل النجف الشباب المؤمن وحتى الاطفال ومن بيوتات قد لا تعرف عنها شيئاً.

    عملوا ما هو مدهش حتى قال عنهم (مزبان خضر هادي): ان ضحايانا – ويقصد الجيش والحزب – في مقبرة النجف تعادل ما خسرناه في (المحمرة)، اولئك الشباب ثاروا واستشهدوا، ولدينا لوحات بأسمائهم، كنا نأمل ان نضع كل واحدة منها على بداية شارع ومنهم الصبي المعجزة(....)(1) ولكن الشوارع والطرقات لم تترك لهم مكاناً خالياً من الشعارات والصور.

    اذا كانت نظرة هذه الجماعة للمعارضة القادمة مع الامريكان نظرة لا تنم عن الرضا والترحاب، فالمعارضة في نظر هؤلاء كانت تعيش في المنفى كما يعيش ابناء الملوك، من حيث البيت والسيارة، والتنقلات الترفيهية بين أوروبا وأمريكا ولا تسأل عن الحسابات الجارية في البنوك، وعلى هذا الاساس لا يحق لها تسلم مقاليد السلطة سواء أكانت مرتبطة بالأمريكان ام كانت مستقلة؟ ومن جانب آخر فقد دخلت المعارضة وفي حقائبها ما يعجزك إحصائه من تخمة للدولار، ومع ذلك فقد عدت على دوائر الدولة، والمقرات الحزبية، والمساحات التي تنتظر ما يقوم عليها من بناء، وكان من بين الأماكن التي تم الاستيلاء عليها، عليه الف علامة للإغتصاب، أو الوقف، وبعضها قابل لأن يكون مدرسة أو مستشفى أو دائرة حكومية، والغريب ان من الاحزاب الاسلامية من بادر بعملية الاستيلاء هذه، بينما كان الحزب الشيوعي في النجف الذي لا يؤمن بالدين ولا علاقة له بالحلال والحرام يركن إلى بيت الذي كان ملكاً له ايام (الجبهة).

    ولنا ان نسأل هؤلاء عمن هو جدير بهذه المهمة، مهمة تسلم مناصب الدولة، فالجواب الذي يجمعون عليه هو لغير المعارضة القادمة من المنفى، المناصب لمن في العراق وقد عانى في عهد النظام مرارة العيش بكل صورتها، السياسيون الذين تلاحقهم نظرات المخابرات أينما اتجهوا فلا يتكلمون عبر لقاءاتهم في بيوتهم الا بموضوع يبتعد كثيراً عن نهاليز السياسة.

    المثقفون اللذين لم يخصعوا لإرادة النظام، ولم يلوثوا أقلامهم على ما تريد وسائل الاعلام، مع ان الاجر كان مغرياً لمقالة تنشر، أو قصيدة تأخذ حيزاً على صفحات الجريدة، وهناك من فصل من وظيفته ولم يظفر بما يكفل له مقاومة الجوع.

    كان الرغيف الذي تتصدق به وزارة التجارة لا تكاد تعرفه لكثرة الخليط المتنافر الذي يعتمد عليه، أما ما تبقى فمن المتعذر الحصول عليه، حتى مات الكثير ولم يتمكن من الحصول على الدواء المطلوب. هكذا كان هؤلاء، وقد دعتهم الحاجة إلى بيع قطع الاثاث، أو اقل:الشبابيك والابواب والبسط، بلى والله باعوا كل ما هو ضروري لسد حاجتهم الا ضمائرهم الطاهرة، فقد وقفو معها شامخين أمام سطوة الجبار والى النهاية.

    3) وهناك فريق ثالث لا ينظر لهؤلاء الا نظرة موضوعية تحدد بموجبها كفاءة الفرد العراقي من دون فرق بين من كان خارج الوطن لأمر دعاه للغربة، وبين من كان داخل العراق مشدوداً الى تربة الوطن مع قسوة المعاناة فيه، المهم ان يكون انساناً ذا سمعة حسنة، ولا يشغل باله الاّ خدمة العراق ومراعاة أبنائه، بعيداً عن مصلحتة الذاتية، العراق عنده هو الأول والأخير، والانسان العراقي هو الذي يستحق التضحية علّه يعيد بعض عافيته، هذا العراقي هو الذي يستحق ان يعتلي منصبة الحكم.

    بهذه الاجواء المتلبدة بالغيوم يطل علينا سماحة السيد السيستاني بوجهه الطلق وعينيه الفاحصتين، يتأمل ما يدور في الساحة الآن وما سيأتي في القريب، ولكنه مع ذلك سيتعرض لمضايقات ربما لا يمكن احتواءها الا بمقدرة السياسي المحترف، السياسي الذي يعتمد اللف والدوران، ويخضع للمرحلة التي قد تضطره لتغيير موقفه وما يتبناه وسرعان ما يبدله بآخر غيره، وقد ينضم الى جبهة لا يلتقى معها بأية صلة، فمصلحته فوق كل شيء.

    وسماحته لم يكن سياسياً بهذا المفهوم، فهو يقف امام كل حدث بما يفرضه عليه واجبه الديني،... العراق بلد ممزق منذ عهد، والعراق بلد مسلم، وفي جميع أدواره كان دين الدولة له هو الاسلام مع حرية الاديان للآخرين، فالعراق اذاً هو الذي يهمه الآن ليمسح عن جبينه تراكمات الماضي الحزين مهما أمكن،وهو الذي يريد إبقاء هويته الدينية، والعراق الذي يهمه هو وحدته وتآلفه مع جميع ابنائه من دون تمييز، ثم استقلاليته وتقدمه في كل المجالات ليلتحق بالركب الذي يسير نحو التقدم والارتقاء.

    المجتمع العراقي بعد معاناته هذه الاعوام الطوال ربما متهرئاً لعدم ارتباطه بضوابط تجعله خاضعاً لما يفرضه عليه القانون،.. حاجته للمال جعلته يسلك طريقاً معوجة ليصل اليه،... الرشوة لم تترك دائرة الاّ دخلتها من دون حذر،... النهب والسلب والسرقة لم تتوقف حتى في الأيام الاخيرة من عهد النظام، كل هذه جعلت من المجتمع العراقي مجتمعاً يميل الى السقوط... وتهاوت اعمدة النظام وعاد الفرد العراقي يمارس ما كان عليه، وبصورة اشد عنفاً ما دامت الفرصة مؤاتية الآن.

    اذاً سيواجه سيدنا السيستاني سيلاً من التساؤلات حول تصرفات المجتمع، بما فيها من كان مرتبطاً بالأمن، وظهر اسمه ضمن لوائح عثرت عليها أيدي الآخرين، وعن المخبرين الذين كانو سبباً في اعدام من تم اعدامهم على يد السلطة، وعن الحزبيين وكيفية الاطاحة بهم أينما وجدوا، وعن التجاوزات على الأراضي وبنايات الدولة وسرقة السيارات والاثاث من بنايات الدولة، وعن قطع الاثاث وغيرها، وفي جميعها كانت اجاباته صريحة لا غموض فيها على وفق ما توجبه عليه الشريعة الاسلامية.

    السيد السيستاني والاحتلال:

    كانت نظرته لما يجري الآن نظرة مليئة بالتشاؤم، الجيوش الامريكية دخلت فما هو الهدف؟ أهو الخلاص من النظام والسيطرة على أسلحة الدمار الشامل، أم هناك مصالح تلتقي مع اسرائيل وما بينهما يبعث على الريبة؟ ان سماحة السيد قد تعرّف على بعض ما تقوم به القوات الأمريكية في (افغانستان) يشير الى هذا الخطر حين شملت التغييرات المجتمع الافغاني حتى وصلت إلى المرأة المسلمة، وهناك ما هو أشد خطورة حيال ما تصبو اليه القوات الغازية في المجتمعات الاسلامية.

    من المؤكد – ومع نظرته هذه – ان يرفض رفضاً قاطعاً دخول القوات، وفي اليوم الاول منذ ان دخل بيته ابن استاذه (السيد مجيد الخوئي) ليلتقي به تبيّن موقفه الرافض، فقد كان بعيدا عنه ولا يمكن اللقاء معه، لانه جاء على ظهر دبابة أمريكية، ولو جاء بطريقة أخرى لتغير الموقف.

    طلب السيد (بريمر) اللقاء به اربع مرات، اؤكد اربع مرات، ولم يحصل على الموافقة بل كان يؤكد على الرفض بقوة حتى اليأس. وجاء ممثله (...) ووقف امام الدار، وكانت لحظة محرجة، ناشدهم السماح بدخول البيت على انه ضيف، وبيت المرجعية لا يرفض احداً، وكانت النتيجة مع صعوبة الموقف هي الرفض ايضاً خوفاً من ان تتكرر اللقاءات بهذه الذريعة.

    أراد مجموعة من الشباب العمل مع القوات الامريكية في بحر النجف وسئل سماحته وكان اكثر اصراراً على الرفض ما دام البناء لمصلحة الامريكان، وهو ما يؤكد بقاءهما طويلاً، والشباب هؤلاء تعوزهم الحاجة إلى المال، ولكن قضية المال هنا لم تعد مشكلة، فلهم ما هو مقرر في فترة عملهم ومن السيد نفسه، اما العمل معها فيما يخص عمران البلاد كالمدارس والمستشفيات فهو يختلف هنا عن العمل الذي يحقق مصلحتها، فالعمل هنا لا شبهة في جوازه.

    ان مرجعية السيد السيستاني لا تختلف تماماً عما التزم به الآخرون فالموقف لدى الجميع واحد،... الاحتلال أمر مرفوض ولا مجال للسكوت عنه مهما تعددت الأسباب، بل لابد من أن تقف أمامه بكل قسوة من دون اكتراث.

    وما ذكر عن السيد (اليزدي)(1) ففيه ألف علامة للتريث،... كلمة واحدة قالها امام (الميجر...) حين طلب منه ان يغادر النجف لغرض الحصار هو وعائلته، وكان الجواب: ان عائلته كبيرة ولا يمكنها المغادرة بهذه البساطة، وكان استغراب (الميجر) فيه شيىء من الدهشة، وسأل عن افراد العائلة فأجابه: بأن النجف جميعها هي عائلتي، اما المواقف الأخرى فقد تعهد باظهارها سماحة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في مذكراته مع السيد اليزدي، والحق انه كانت علامات مضيئة، لم تطرق ابواب من كتبوا عن تلك الفترة، وما ذكرته السيدة (مس بل) من ان السيد اليزدي كان صديقاً لنا، فربما ارادت ان تمسه أصابع الشك نحو زعامته الدينية وتأثيرها في المجتمع المسلم، علها تسبب الاعراض عنه وابعاده عن منصبه وتأثيره، وفعلاً فقد ترددت أصوات المشبوهين وما تزال لحد الآن حول هذه التهمة. ولولا موقف السيد السيستاني الديني الذي يفرض عليه ما يراه واجباً لقلنا: بأن ما دار حول السيد اليزدي هو السبب المحتم أزاء وقفته الحازمة أمام القوات المحتلة، ونحن لا ندري بعد هذا، هل تتناوله أقلام المغرضين فيها بعد وتعده صديقاً مخلصاً للقوات الغازية وفي الطليع السيد (بريمر).

    كان السيد السيستاني لا يطمئن تماماً بمن يقدم عليه وهو ما يزال تحت خيمة الامريكان، فصلتهم أما أنها قائمة على منح الثقة من قبل السيد أمام المجتمع العراقي وأما ان تكون مخططاً تحركه الايدي من وراء ستار للنيل من سماحته – لا سمح الله – كان موقفه من الجميع صريحاً لا يلامسه غموض، ولم يحد، ولا يمكن ان يحيد عن مبدئية ثابتة من خلال رؤيته الدينية له.

    السيد السيستاني لم يكن سياسياً على وفق ما يريده السياسيون، ولكن موقفه الديني هو يتحكم فيما يراه اذاً، فماذا سيكون موقفه إزاء هذا المعترك السياسي الآن؟

    الحق ان ما تبناه سماحته في المرحلة الاولى هو نفسه الذي ثبت في المرحلة الثانية، قالها بكل ما عرفته الصراحة من وضوح، العراق... العراق... فما يهمه هو وحدة العراق واستقلاله، وان جميع الطوائف هم عراقيون لا تفرقهم المذهبية الدينية، ويستنكر بشدة حين تردد كلمة (سنّي) أو (شيعي) ومسلم وغير مسلم، الكل عراقيون، ولا بد ان يقوم على اكتافهم شموخ العراق وكبريائه، وما يصدر من قوانين وأنظمة فكلها باطلة ما دامت الانتخابات العامة لم يمارسها أبناء الشعب العراقي، ... الانتخابات التي تتم من خلالها صياغة الدستور الدائم بأيد عراقية، ومن ثم تنطلق جميع التشريعات، اما ما يسمى ب(قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية أو بقيمة التشريعات الاخرى) لم تدخل في اطار الشريعة لدى سماحته.

    السيد السيستاني طلب من (الأخضر الابراهيمي) تقديم الانتخابات العامة، وقد تحقق له ما أراد وطلب منه كذلك ان ما تم تشريعه في ضل الاحتلال، وما يسمى بقانون الدولة ان يسقط نهائياً من القرار الجديد لمجلس الأمن حول العراق، كي لا تكون له صفة شرعية ويكون قراراً ملزماً فيما بعد، وقد تحقق له ذلك، حين وصلت (البرقية) المستعجلة إلى مجلس الامن قبيل اصدار القرار بقليل، وكان وزير الخارجية العراقي قد أبلغ السيد (كوفي عنان) والأخضر الابراهيمي بأن المرجعية لا مانع لها من ادخال (قانون الدولة) ضمن قرار مجلس الامن لان السيد السيستاني قد أيد الحكومة العراقية الحالية في بيان أصدره مكتبه في النجف وما صدر من هذه الحكومة ومن قبلها يأخذ صفة الشرعية، ولكن السيد السيستاني لم يؤيد هذه الحكومة لانها لم تكن تحضى بالشرعية عن طريق الانتخابات، ثم اضاف سماحته في آخر بيانه: ان على الحكومة هذه ان تثبت قدرتها وعزمها على المهام، وذكر بعدها تلك المهام، فالسيد الوزير اخذ الفقرات الاخيرة، واعرض عما جاء في البداية من رفض الشرعية لهذه الحكومة، ولكنه سياسي وله الحق في تلاعبه بالقول ليصل إلى ما يريد.

    فالانتخابات اذاً وما يتبعها من تشريعات هو الموضوع الذي لا يمكن عرقلته والالتفاف عليه.

    وقد يعجب سماحته، ويعجب غيره من اولئك الذين جاؤوا جاء وعلى اكتافهم ما يعجزهم حمله من شعارات الديمقراطية التي تعني حرية الشعب، فلماذا يخافون من هذا الشعب الذي جاؤا من أجله ومن أجل حريته، وكان عليهم جميعاً ان يكون همهم الوحيد هو الانتخابات التي تضمن له حريته، فاصدار ما تم من تشريعات في المرحلة الانتقالية لم يكن لشعب اية ارادة حيالها، بل هو مغيب عنها تماماً، كان على هؤلاء ان يحققوا مبدأ الديمقراطية بما يحمله من واقعية ليطمئن هذا الشعب المسكين بهم ولو لفترة الانتخابات التي ما زالت هي الحكم.

    اذا تحقق ذلك، فماذا سيكون موقف السيد السيستاني؟... الانتخابات قد تحققت ... المجلس التشريعي جاء بعدها عراقياً لا لبس فيه، عندها سيبارك سيدنا السيستاني ما تحقق، وسيؤيد بكل اطمئنان أي عراقي يأخذ مكانته من القمة وحتى السفح، العراقي هذا من أي طائفة كان، ومن أي قومية هو المهم ان يكون عراقياً منتخباً انتخاباً شرعياً ولا يدنو اليه قليل من الشك.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2006
    المشاركات
    15

    افتراضي

    احسنت اخي العزيز على تنويرنا بهذه السيرة العطرة لسماحة السيد

    اطال الله في عمره الشريف

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني