العراق: عدم ثقة .. لا توافق .. ولا ائتلاف
http://shabab4u.com/Articles.aspx?id_Article=3878

رشيد الخيون




صلحت عناوين الكيانات السياسية العراقية، من قبل، عناوينَ للكتابة في العشق والعشاق: ائتلاف، توافق، تحالف! فالنفوس إذا تحابت وتعاشقت ألفت، وتوافقت، وتحالفت. وهذا ما تقرأه عنواناً لكتاب ابن حزم الظاهري (ت 459 هـ) «طوق الحمامة في الإلفة والآلاف». لكن، أسماء كياناتنا، عند المقايسة ما بين الاسم والمسمى، تبدو وكأنها من أسماء التضاد. وللعرب فلسفة عندما «سمت أبناءها بـ(الأبشع) لأعدائها وسمت عبيدها (الأجمل) لأنفسها» (الثعالبي، فقه اللغة). وهي فلسفة تبدو بريئة من تخادع وتحايل. بينما تجد اضطراباً ما بين الأسماء والمعاني عندما يتعلق الأمر بالسياسة أو التجارة على حد سواء. وسبق أن أشار الرصافي (ت 1945) في بيت مشهور: «أسماء ليس لنا سوى ألفاظها.. أما معانيها فليست تُعرف».



هذه مقدمة لمحنة عراقية، محركوها توافقيون وائتلافيون، بينهما ما بينهما من اختلاف عقيدي، تراه أحال السياسة، وهي فن الممكن، إلى حقل ألغام. التوافقيون يصلون كاتفي الأيدي، والائتلافيون يسبلونها. وخلافاً للائتلافيين لا يقر التوافقيون الإمامة أصلاً، ولا يدخلون «حيَّ على خير العمل» في الأذان، ناهيك من الشهادة الثالثة. لذا تجد لهؤلاء مساجدهم ولأولئك مساجد. ولو كان شيعة العراق على المذهب الزيدي لتوحد المسجد، لأنه جمع وألف بين تشيع واعتزال وفقه حنفي. ولو كان سُنَّة العراق على المذهب المالكي لهان الأمر، فلديه ما يجمع المصلين، وهو سبل الأيدي!



وهذا ما ورط ابن بطوطة المالكي (ت 779 هـ) عندما نزل بمدينة صنوب، وصلى بمسجدها مسبلاً اليدين. وكان أميرها متشددا ضد الشيعة، وكم شافعي تشدد ضد حنفي، وحنبلي ضد أشعري، إذا تعصب الحاكم لمذهبه! قال: «واتهمونا بمذهبهم (شيعة)، وسألونا عن ذلك، فأخبرناهم أننا على مذهب مالك، فلم يقنعوا بذلك منا، واستقرت التهمة في نفوسهم حتى بعث إلينا نائب السلطان بأرنب وأوصى بعض خدامه أن يلازمنا حتى يرى ما نفعل به، فذبحناه وطبخناه وأكلناه، وانصرف الخديم إليه وأعلمه بذلك، فحينئذ زالت عنا التهمة» (الرحلة، ص 320). هذا، والفقه الشيعي «يحرّم أكل الأرنب وجميع الحشرات» (القزويني، الشيعة في عقائدهم وأحكامهم، ص 197).



كل ما تقدم من اختلاف العقائد لا يثير الاستنكار، فالناس مذاهب شتى، وحق الاختلاف حق محفوظ، ورد في أكثر من آية قرآنية، ولا يجوز لمذهب إلغاء ما لا يوافقه من المذاهب. لكن، الاستنكار أن يدخل هذا الاختلاف في السياسة، ويصبح لكل مذهب نائب سلطان مثل أمير صنوب الرومية، ويتحول لحم الأرنب إلى اختبار على صحة المذهب أو بطلانه، ويغدو سبل اليد من عدمه علامة حزب أو تكتل؟ يراقب صلاة مواطنه إذا كان على مذهبه أم لا؟ وتعلمون ماذا يعني إذا دخلت تلك التمايزات والاختلافات في إدارة الدولة! عود على بدء، يسهل ما بين الكيانات العراقية، من عدم ثقة، لو حصل بين أحزاب لا بين طوائف، ما أن تختلف على تعيين وزير أو اعتقال متورط إلا وفتحت ملفات الماضي السحيق. وأخطر من ذلك، حصل أن تمترس ساسة أهل السُنَّة (التوافق) بالجماعات السُنّية المسلحة، ويرون برفع رسمية المذهب من واجهة السلطة زلزلة الزلازل، ومعصية تخالف منطق التاريخ. لذا كان الالتجاء القوي إلى المحيط السُنّي، بما فيه الجار الشمالي، واكتشف أهل التوافق أن جماعة «القاعدة» إذا لم تنفعهم لا تضرهم، فوجودها يضمن التوازن رغم ما فعلته من مذابح.



ومن جانبهم لم يستغن ساسة الشيعة (الائتلاف) عن جماعاتهم المسلحة، والإسراع باستغلال الفرصة لتثبيت الدولة على أساس يعتقدون فيه التوازن، لكن الممارسة أسفرت عن شيء آخر. وبالمقابل من لجوء السُنَّة إلى محيطهم المذهبي ظلت أحزاب شيعية ترى في إيران ظهيراً. وإذا صح ما تناقلته وسائل الإعلام، فرئيس الوزراء العراقي، في زيارته الأخيرة، لم يرد الرئيس الإيراني عندما نعت المقاطعين لوزارته بالمفسدين! وكم يتعقد المشهد عندما تدخل إيرن الشيعية طرفاً ضد التوافق العراقية السُنّية! أما التحالف الكوردي، فبقدر ما يشغله الهاجس القومي تراه يقف بين الكتلتين رسولاً ووسيطاً، مع ميل ضمن إرث التضامن للائتلاف، فهو وإن كان يأكل لحم الأرنب ولا يسبل اليدين في الصلاة، إلا أنه حل مشكلته بكيان لائق، وحل الإمامة بإقليمه وبالعراق، فلم تعد سُنّية عربية، ولا شيعية ولاية فقيه.



لقد جذبت لعبة الطائفية الكتلتين الإسلاميتين، التوافق والائتلاف، «جذب النوق للعطن»، ينفعلان تلقائياً بما كان بين علويين وأمويين، أو بين صفويين وعثمانيين، وبهذا يبقى عدم الثقة أصلاً مؤصلاً. على أن خروج جبهة التوافق من الوزارة يعني، ضمن التمثيل الطائفي، خروج طائفة وانعزال مكان جغرافي. وبالمقابل، إذا ظل الائتلاف يدير الدولة مفرده فلا يعني سوى حكم الطائفة! وهكذا لا توافق، ولا ائتلاف.. إنها حالة مزمنة ومؤصلة من عدم الثقة.