لماذا يعارض بعض الساسة العراقيين انسحاباً أمريكياً مبكراً ؟

يتداول بعض العراقيين الخرافة القائلة بأن الأمريكان جاؤوا للعراق لا طمعاً في ثرواته النفطية ولا لتقسيمه خدمة لأهداف الصهيونية والمصالح الأمريكية، بل لتحريره من طغيان النظام البعثي، وبما أن الشيعة والأكراد هم الأشد تضرراً من النظام البعثي البائد يتحتم عليهم مقابلة المعروف الأمريكي بمثله، فلا يجوز معارضة الإحتلال الأمريكي ولا الاحتجاج على جعله أرض العراق ساحة لصراعه مع الإرهاب الوهابي السلفي ولا الاعتراض على تدخلاته السافرة في الشؤون العراقية إلى حد انتقاص السيادة ولا التصدي لمشاريعه التقسيمية، وكل من يجرأ على المطالبة برحيل القوات الأمريكية أو يدافع عن نفسه ضد عدوانها هو أما من مخلفات النظام السابق أو إرهابي أو عميل لإيران، أما اليائسون من رحمة الله فيذهبون إلى أبعد من ذلك بدعوتهم لربط "المشحوف" العراقي بحاملة الطائرات الأمريكية لأننا لولا الأمريكان لبقينا أبد الدهر عبيداً أذلاء لصدام حسين ونسله الشيطاني.

لست خبيراً بالتاريخ ولكني أجزم بأن الأمم وفي كل عصور التاريخ لها موقف واحد من الاحتلال، وهو الرفض والمقاومة، ولعل أبرز ما يجمع بين مراجع المذهب الشيعي والقبائل العراقية في عشرينيات القرن الماضي وقبائل الماوماو الكينية في أفريقيا والأزتيك في أمريكا الوسطى وقبائل سكان امريكا الشمالية وشعب الزولو في جنوب أفريقيا والفيتناميون أمر واحد، وهو مقاومتهم الإحتلال، حتى أوشك البعض منهم على الفناء في صراعهم مع المحتلين، والاستثناء على هذه القاعدة الإنسانية هم الأقليات أو الفئات التي ترى مصلحة لها في وجود واستمرار الاحتلال والعملاء المأجورون.

يعارض السياسيون السنة والجماعات الإرهابية المرتبطة بهم وكذلك قادة الأكراد إنسحاباً أمريكياً مرتقباً لأسباب واضحة، ويسوقون لتبرير ذلك ذرائع واهية، ما هي إلا تمويه على حقيقة تلاقي مصالح المحتلين مع ما يراه قادة هاتين الفئتين من مصالح لهما، ولأن منطلق قادة الأكراد والسنة العراقيين فئوي يتمحور حول تحقيق أعظم المكاسب لفئتيهما ضد الآخرين وبالذات الأكثرية الشيعية فقد بارك الأكراد الاحتلال وارتضى به السنة، والسبب وراء تشبث الأكراد بالاحتلال الأمريكي مصلحي فئوي بحت، إذ يأملون من الأمريكان مساعدتهم في بلوغ هدفهم النهائي بانفصال كردستان عن العراق أو على الأقل صيانة وتعزيز وضعهم شبه المستقل حتى تتوفر الشروط والظروف الإقليمية والدولية للانفصال. أما الإرهابيون وحلفائهم المستترون وراء واجهات سياسية مفضوحة فهم قلقون من انسحاب أمريكي مبكر يضعهم وجهاً لوجه مع الجماهير العراقية الغاضبة التي ستسارع لإنزال العقاب الآلهي الصارم بهم، وديمومة الجماعات السنية التي جاهرت بعدائها و"مقاومتها" للأمريكان مرتبطة إرتباطاً عضوياً باستمرار الإحتلال، وقد تكشف للعيان مؤخراً أن "المقاومة" السنية للإحتلال هي جلها مناورة لتحسين موقف السنة في اللعبة السياسية التي تنفذ تحت إدارة أمريكية، فما أن حصلت الفئات السنية على وعود أمريكية بضمان حقوقها الطائفية وأكثر حتى استبدلت قناع "المقاومة" بستار "الصحوة"، ولو تمعنا قليلاً في المواقف الأمريكية المعلنة تجاه العملية السياسية في العراق لتأكد لنا بأنهم أشد المناصرين لأعطاء السنة أكثر من استحقاقاتهم السياسية والاقتصادية بكثير.

ولكن العجب العجاب هو موقف بعض الشيعة الذين يصرون على بقاء القوات الأمريكية المحتلة مدة أطول، فكيف نفسر موقف بعض الفئات الشيعية، وبالتحديد المجلس الأعلى وحزب الدعوة، التي قبلت بالاحتلال وزينته لجماهير الشيعة في الوقت الذي تؤكد التجربة الإنسانية التاريخية بأن المتعاونين والراضين عن الاحتلال هم أما أقلية طامعة بتحسين موقفها على حساب الأكثرية من خلال الاستقواء بالأجنبي أو عملاء مأجورون؟ لو قبلنا بتعاون هذه الجماعات الشيعية مع الاحتلال أو على الأقل سكوتها عليه في البدء تحقيقاً لمصالح وطنية وشيعية مرحلية تتمثل في اسقاط النظام البعثي الطاغوتي فإن ذلك لا يبرر استمرار تأييدها لبقاء القوات المحتلة إلى أمد غير معلوم، ففي الفلبين تعاون الثوار ضد الاستعمار الاسباني مع الأمريكان في حربهم ضد الأسبان على الأراضي الفلبينية ولكن عندما نكث الأمريكان بوعدهم باستقلال الفلبين انتفض عليهم الفليبنيون في ثورة عارمة.

لقد أوقع هذا الموقف الخاطيء من الاحتلال قادة هاتين الجماعتين الشيعيتين في تناقضات واضحة، فمن ناحية يصرون على التجديد لقوات الاحتلال بدعوى عدم اكتمال البنية التنظيمية والتسليحية للقوات المسلحة العراقية، في الوقت الذي لا يملون ولا يكلون عن اتهام الأمريكان بالعرقلة والتباطؤ في تدريب وتسليح وتجهيز القوات العراقية، وإذا كانوا غير راضين عن التدخلات الأمريكية في قرارات الحكومة مما حدا بأحدهم للقول بأن الأمريكان يملون عليهم كل القرارات فلم لا يطالبون بانسحاب عاجل ليتسنى لهم إدارة دفة العراق من دون وصاية أمريكية؟ التفسير المنطقي الوحيد لهذا الموقف المزدوج من الاحتلال هو اقتناع هؤلاء القادة بأنهم لا يمثلون سوى أقلية من الشيعة في العراق، على الرغم من عدد نوابهم والمتحالفين معهم في البرلمان، وهم بلا شك مدركون لضآلة قاعدتهم الشعبية الشيعية، بل لعلهم لا يريدون توسيع هذه القاعدة لأن ذلك يفرض عليهم توسيع العضوية في مجموعة القيادة وفي عمليات اتخاذ القرار مما سيضعف أو حتى يهدد احتكار هذه المجموعة للقيادة والقرار، لذا تراهم يتصرفون في مواقفهم من الاحتلال مثل الأقليتين الكردية والسنية، ولو أدخلنا في الاعتبار الحسابات المصلحية لتأكد لنا بأنهم هم أيضاً يخشون على مواقعهم من إنسحاب أمريكي مبكر، فهؤلاء الشيعة "الأقلية" منهمكون في توسيع رقعة سيطرتهم لتشمل القوات المسلحة والأمنية والإدارة المركزية والحكومات المحلية في الوسط والجنوب، ولم يستنكفوا من الاستقواء بالأمريكان والأكراد على منافسيهم من التيار الصدري في سبيل تحقيق مصالحهم الشخصية والحزبية، ولم يترددوا في استقطاب المنافقين والوصوليين، ويغضون الطرف عن فساد هؤلاء الأعوان والمناصرين، الذين عرفهم الناس بتزوير الشهادات وتوظيف الأقارب والمحاسيب والفساد وسرقة المال العام والرشوة، وهاهم اليوم يقترفون أعظم الكبائر بحق الله والإمامين العسكريين وشهداء المقابر الجماعية وضحايا الإرهاب بقبولهم عودة البعثيين إلى مواقعهم السابقة وتلويحهم بالعفو العام.

الشيعة أكثرية في العراق، وهم أقوياء وخاطروا بأرواحهم لكي يحصل الائتلاف الشيعي على أكثرية مقاعد البرلمان، لكن بدد بعض قادة الائتلاف هذه القوة عندما تصرفوا من منطلق كون أحزابهم وجماعاتهم أقلية ضمن الشيعة، وتعاملوا مع المحتلين والأكراد والسنة على هذا الأساس، لذا فقد تهافتوا على التحالف مع الأكراد، وتنازلوا للجبهة السنية، وتغاضوا عن مشاركة ودعم بعض أعضائها للإرهاب، وخضعوا لإملاءات الأمريكان، وهكذا أداروا ظهورهم للشيعة الذين أوصلوهم للحكم، وحاولو الاستقواء بغيرهم ظناً منهم بأن هذه التحالفات والتنازلات ستضمن لهم التفرد بالسيطرة على القرار والشارع الشيعي، وقد اقترف هؤلاء الشيعة الأقلية خطئاً جسيماً في استهانتهم بجماهير الشيعة وقوتها، وهم في ذلك أشبه بأقطاب النظام الملكي الذين ظنوا بأن العملية السياسية حكر على النخبة السياسية فقط، وبأن جماهير العراقيين مجرد متفرجين أو أدوات بيد النخبة، فكان مصير نظامهم السقوط.

لقد أوهن قادة الشيعة "الأقلية" طائفتهم، حتى أصبحت هدفاً للابتزاز من قبل الأقلية الكردية وللقتل والتهجير الجماعي من قبل الإرهابيين السنة، ولولا مواقف هؤلاء القادة المتخاذلة لما قتل عشرات الآلاف من الشيعة وهجر الملايين منهم داخل وخارج موطنهم، كما أغرى هذا الضعف المحتلين الأمريكان ليضغطوا على الشيعة المظلومين للتصالح مع قتلتهم من البعثيين والإرهابيين وتقديم التنازلات السياسية والاقتصادية لهم، ومن المؤكد بأن الضعف الشيعي يصب مباشرة في الضعف العراقي العام، ومنطقياً إذا كان الجزء الأكبر من كيان ما هزيلاً فمصيرالكيان برمته الهزال، وهذا ما حدث للعراق بالضبط، لذا فقد استهان به معظم جيرانه و"أخوانه" من العرب الذين سعوا لتنمية مصالحهم داخل العراق والمنطقة على حساب المصالح العراقية.

نصيحتي لهؤلاء الشيعة "الأقلية" التخلي عن مواقعهم لمن هو أجدر منهم بتمثيل مصالح الشيعة والدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم، او اتخاذ المواقف والقرارات التي تمليها عليهم مسئولياتهم التاريخية والجسام أمام ناخبيهم وذلك بفرض الجلاء العاجل على القوات المحتلة وقبل نهاية هذا العام وتطهير أرض العراق من الإرهابيين ومحاربة الفساد ونبذ التقسيم وصياغة مشروع وطني منصف لكافة العراقيين وتطبيقه بعد إقراره من غالبية الناخبين، أما القبول بالوضع الحالي واستمرار الاحتلال فهو مجرد استبدال للطغيان البعثي بطغيان أمريكي، مختلفان في الشكل ومتطابقان في الجوهر، والإثنان معاديان لمصالح العراقيين وشيعة العراق والمنطقة كلها.

12 كانون الثاني 2008م

د. حامد العطية