الجعفري : تيار في رجل ..و.. رجل في تيار


ياسر عبد الحسين


في ظل المتغير السياسي الذي تعيشه العملية السياسية في العراق ، برزت الى الساحة السياسية العراقية الكثير من الاحزاب والتيارات السياسية، ولعل البعض انه يرى ان هذه الحالة تشكل ظاهرة صحية في مجمل العملية ، لكونها تضفي على مسار التفاعلات السياسية التحديث وتنمى قابلية التنوع لدى تلك الكتل نفسها وترسم للمستقبل العراقي صورة واعدة ، لكن يظل المواطن العراقي بحاجة الى واقع ملموس يحقق فيه السياسي كل ما يحقق له اهداف الدولة الحديثة من الرفاهية والامان .
ألم يحن الآوان لينهض السياسي العراقي سواء كان منتميا ام مستقلا, ليوضح المعضلة السياسية التي جعلت من الشعب العراقي موضوع استقطاب نظرات و آراء العالم السلبية حول تجربته في خياره الواضح للنظام الديمقراطي بالثمن الغالي المعروف الذي دفعه ولا يزال يدفعه كل يوم لاجل اقلاع العراق من قبضة الدكتاتورية واعطاء الفرصة لشعبه ليحدد مصيره السياسي ؟ اين جهود الواعيين لدعم ديمقرطة العراق بدعمهم مبادرة حركة شعبية تكون فارضة تغييرالواقع كما حدث في الكثير من البلدان التي خاضت تجربة العراق ؟
ترددت في الاونه الاخيرة اخبار عن طرح الدكتور ابراهيم الجعفري تياره الاصلاحي الجديد وانه يسعى لتقديم صورة حقيقة للطيف العراقي المتنوع ويسعى نحو الاصلاح الوطني السياسي والاجتماعي ، وانه كما تحدث البعض ليس تيارا حزبيا او تكتلا برلمانيا وجاء لا ليعادي الحزبية بل يكسر اطار المحاصصة الحزبية .
هل نحن بحاجة الى تيار سياسي جديد ؟
ان انعدام روح ومشروع التغيير والاصلاح في الاحزاب السياسية العراقية هذا ما ترك الاحزاب المشاركة في الحكم في العراق منذ اول التغيير الى هذه اللحظة, تتصرف بالسياقات السياسية التي كانت عليها ابان فترة المعارضة والقواعد الضيقة التي كانت مقبولة نوعا ما آنذاك ولم تعد مقبولة باي شكل من اشكال حاليا اي بعد التغيير .
يمكن لنا الاستعانة بامثلة دول عبرت بهذا التدهور السياسي الذي هو نوعا ما تحصيل حاصل لتراكمات الهدم والانعزالية الذي اصاب العراقيون منذ عقود مضت. ان مثل وضع فرنسا قبل ومباشرة بعد التحرير يبدو لي اقرب سياسيا الى الواقع العراقي اليوم عدا امنيا حيث لا مقارنة بين البلدين بعد التحرير.
فبعد انتهاء وضع الحروب في فرنسا وانتفاء الحاجة الى المقاومة المسلحة ثم اندثرت مظاهر تلك المقاومة بدخولها الى روح التشكيلات السياسية من الاحزاب وغيرهم من المؤسسات ليبنوا مبدأ المواطنة الذي ضاعف حس الوطنية لدى جميع الفرنسيين لتخلف نظام ديمقراطي يتبناه جميع الاحزاب السياسية في فرنسا حيث الى يومنا هذا جميع الاحزاب الفرنسية وبغض النظر عن اتجاهها الحزبي يعتبر الجنرال شارل دغول المرجع والرمز الفريد لوطنيتهم القوية. كما ان الاصلاح السياسي في البلد المذكور تحقق جراء الضغوطات الشعبية المدعومة من قبل المفكرين والمثقفين والفلاسفة هذا ما خلق ثورة اجتماعية وثقافية حقيقية حققها الشعب الفرنسي بدعمه للجبهة الشعبية من خلال التظاهرات الواسعة كالتي حدثت عام 1935 وشارك فيها الاحزاب وارباب العمل والنقابات العمالية والجمعيات الخاصة بالمجتمع المدني بانواعها وحيث ثقل مشاركة النساء كان مسيطرا مع مشاركة ملحوظة للمفكرين حيث الجميع طالب الحكومة فيها بالخبز والسلام والحرية. وسرعان ما كان صياغة " برنامج التجمع الشعبي" يوم 15 تموز من قبل الاحزاب الاشتراكي والشيوعي والراديكالي . هكذا كان الشعب من دفع الى تكوين الجبهة الشعبية والشعب هو الذي رفع التحالف الى السلطة بمشاركة انتخابية بنسبة 85% سنة 1936 .بالاضافة الى ان الشعب هو الذي ضغط على الحكومة طوال شهر حزيران باحتلاله المصانع والمحلات. بهذه العملية استطاع العمال ان يراقبوا تنفيذ برنامج التجمع الى درجة اضافة اصلاحات كانت غير واردة لدى المبادرة الاولى فيما يخص العلاقة بين العمال وارباب العمل. بذلك حقق ليون بلوم امنيته في اول خطاب له حين اصبح رئيس وزراء فرنسا قائلا: "يجب فتح جميع الطرق ليتسنى للجميع المشاركة في اللعبة الحرة والمنصفة للديمقراطية".
اما في العراق فالتقصير في اصلاح الاحزاب لانماطها القديمة والمتواصلة في ممارسة سياسات ضيقة النظر ادى الى تقليب الآية سواءا كان ذلك على مستوى وضع الاحزاب ذاتها ام على مستوى الدولة والسلطات الاخرى. فبدلا من التوجه الى تغييرالوضع الحزبي وشأنه الداخلي للمباشرة بمبادرات جديدة نحو الديمقرطة وتحسين الوضع الاداري في مؤسسات الدولة والانصيات الى ألاولويات والاحتياجات الاجتماعية والخدماتية الخاصة بحياة المواطنين, لا يزالوا يعيشوا عدم التوفيق الذي يعم الشارع العراقي تدهورا .
لماذا الاصلاح ؟
يعرف قاموس أكسفورد الإصلاح "تعديل أو تبديل نحو الأفضل في حالة الأشياء ذات النقائص، وخاصة في المؤسسات والممارسات السياسية الفاسدة أو الجائرة؛ إزالة بعض التعسف أو الخطأ". والإصلاح يوازي فكرة التقدم، وينطوي جوهرياً على فكرة التغيير نحو الأفضل، وخاصة التغيير الأكثر ملائمة من أجل تحقيق الأهداف الموضوعة من قبل أصحاب القرار في حقل معين من حقول النشاط الإنساني.
كما يمكن التمييز بين ثلاثة مستويات للإصلاح:
المستوى الأول: الإصلاح بوصفة استراتيجية المشاركة في بناء الدولة او السلطة ، وتعتمد الإصلاحية منهج بناء القوة من أسفل بصورة تدرجية وتراكمية وسلمية، ، إلى أن تتمكن من الاستحواذ والسيطرة السياسية على المجتمع السياسي، فيما يسمى بحرب المواقع.
الثاني: الإصلاح بوصفة عملية تطوير مجتمعي مستمرة تتعلق بتحسين أداء الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية من حيث الكفاءة والفعالية، وهو ما نطلق عليه الإصلاح السياسي أو القانوني أو المالي أو الإداري أو الاقتصادي، وغير ذلك.
الثالث: الإصلاح الفردي، وأبعاده القيمية والأخلاقية والنفسية والمعرفية والإدراكية والسلوكية، وكل ما يتعلق بتقويم النفس وتهذيبها، وبناء القدرة الفردية على الحكم والتمييز بين ما هو قبيح وما هو جميل، وتعزيز الثقة في الذات والقدرة على نقدها، امتلاك المعرفة والمهارات العملية النافعة، والقدرة على تمثيل الذات والآخرين والدخول معهم في علاقات تفاعل وتطوير هوية مشتركة.
وتكمن في النقطة الثانية والثالثة ما يسعى اليه الجعفري لاصلاح ما يشوب المجتمع السياسي من ركود بسب التحالفات الضيقة ، لان الساحة السياسة امتلئت بتيارات سياسية وتحالفات من النمط الاول .
لماذا الجعفري ؟
يعرف عن الجعفري انه يقف ضد مبدأ المحاصصة الذي مازال يهمين على الحياة السياسية في العراق، تلك الصيغة الذي اقرها "بريمر" الحاكم الامريكي المدني السابق للعراق، والتي تم بوجبها توزيع الحصص وفق خط بياني ثابت يقسم العراق الى شكل هندسي ثلاثي الاضلاع – شيعي – سني – كردي - .
ربما كانت اوضاع الساحة العراقية المضطربة، قد استوعبت صيغة كهذه بصورة انتقالية، ذلك لأن انهيار الدولة العراقية السابقة، اعاد المجتمع العراقي الى مكوناته الاولية التي صارت تنظر بنوع من الحذر لعلاقتها مع بعضها البعض، وكي يضمن الجميع موقعه ضمن البناء الجديد للعراق، تم اختراع تلك الوصفة " السحرية " التي كانت كفيلة بإعطاء ما لزيد وعمر حصة مكفولة، لم تعجب الدكتور الجعفري تلك الوصفة واعتبرها اسفينا غرس في قلب المجتمع العراقي سيتولد عنه الكثير من المشكلات اللاحقة، لكنه رغم ذلك، اضطر للتعامل مع المشروع لأنه – اي الجعفري - لم يستطع الوقوف بوجه الموجة الجارفة وقتها، فشكل حكومته الانتقالية وفقاً لذلك مع الكثير من مشاعر عدم الرضا .
خرج الجعفري من رئاسة الحكومة كنتيجة لتجاذبات وموازين قوى لعبت دورها في استبعاده، الا انه عمل وبدأب حثيث على تشكيل تجمع سياسي يخرج عن عباءة التقاسم والمحاصصة، لذا بنى تكتلا يضم عددا من التيارات والشخصيات المعتبرة من كافة شرائح الطيف العراقي.
مشروع كهذا فيما لو قيض له ان يرى النور، لابد ان يزعزع مكانة عدد من القوى السياسية التي لا ترى في هذا التيار ما يحقق مصالحها ، كذلك يؤثر في اطراف اقليمية ودولية فاعلة على الساحة العراقية .
الجعفري الذي اكد رفضَه لمبدأِ المحاصصة الطائفية الذي اعتـمد كأساسٍ في بناء العملية السياسية الجارية في البلاد، ويرى إن على جميع ِالقوى السياسية في العراق أن تضع ولاء الوطن فوق جميعِ الولاءات و أن "التيار الوطني سيعمل على أن يكون بمساحةِ أطيافِ اللونِ العراقي بكل ِشرائحه"، وبذلك لن يكون التيار الوطني جبهة لجمع ِ القوى، أو يكون حزباً يجمع باقي الاحزاب "بل هو تيارٌ وطنيٌ يعتمد ُ الديموقراطية وبناء البلاد على أساسِ السيادة والتقدم"،
التيار في الحسابات المحلية
في نظرة اولية للحسابات السياسية القائمة الان، يتضح ان هناك قوى سياسية جاءت مواقعها على هيكل الطائفية والقومية فمن خلال هذين الاعتبارين، تستطيع تلك القوى،المساومة ومن ثم الحصول على مكاسب حصرية بإعتبارها ممثلة لهذا الطائفة او تلك، ومع بروز منافس على هذه الشاكلة، يصبح احتمال تجريدها من تلك المواقع او بعضها واردا.
لذا يمكن القول ان " الطائفيين " هم من لا يعجبهم المشروع بهذه الوتيرة، أما القوى المطالبة بأكبر حصة من العراق ارضاً وثروات، وعلى اساس تسميتها القومية ذات النوازع التي لا تخفي طموحاتها فوق المنطقية، فهي ايضا ليست بعيدة عن الشبهات، خاصة بعد تجربتها مع حكومة الجعفري، حيث لم يتنازل لها عن كركوك يومها، وكان ان اثيرت خلافات معه ما تزال ماثلة في بعض اوجهها، وعليه فتلك القوى لا تحبذ عودة قوية لتكتل واسع يقوده الجعفري .
التيار في حساباته الدولية
هناك الكثير من القوى الاقليمية التي بات واضحا ان مصالحها تحتم عليها اختراق الساحة العراقية بواسطة " وكلاء" محليين يستطيعون ممارسة الضغوط بشتى اشكالها، لكن تلك الاطراف لا يمكنها تامين الاختراقات المطلوبة من دون استعار طائفي تستطيع الادعاء من خلاله ، حرصها على دعم الجهات المتقاربة معها مذهبياً،ذلك لأن خطاباً وطنيا جامعا، لابد سيجردها من هذه الورقة التي طالما لعبتها بمهارة وما تزال . من هنا فإرسال اصابع الاتهام نحو قوى اقليمية معينة يبدو منطقيا مادام حساب المصالح يضعها في خانة كهذه.
الضلع الاخر والاهم، هو الطرف الامريكي، فلم يخف الامريكيون يوماً انزعاجهم من توجهات الجعفري ونزعاته الاستقلالية التي ربما اعاقت مخططاتهم في الحصول على اتفاقات امنية طويلة الامد مع العراق، ان تضرب هذا بذاك، ووفق مبدأ " فرق تسد" فذلك عمل نموذجي كما يراه الامريكي، واي تجاوز لهذه التوجهات، لابد سيضع المخططات الامريكية في مكان ليس مريحاً، فماذا لو نجح تجمع بقيادة " الجعفري " في الحصول على قدرة فاعلة ومقررة في الوضع العراقي؟
الرجل القريب من الجميع وخصوصا التيار الصدري واطراف قوية سياسيا وشعبيا في الساحة الشيعية والسنية ، كذلك له امتدادات مؤثرة عند السنة، خاصة مع شخصيات ذات اعتبار في مناطق الانبار وصلاح الدين ، كذلك في الموصل التي تربطه بالكثير من شخصياتها – العربية والكردية والتركمانية -، صلات خاصة بحكم سنوات دراسته الطويلة هناك .
مرة اخرى، يتقاطع المتناقضون، كأنما في لعبة الكلمات المتقاطعة ، فكل من الاطراف المذكورة اعلاه، له هدف قد يختلف عن الاخر في موضع عدم الارتياح لما يسعى اليه الجعفري، لكنها تلتقي في نقطة واحدة " لا مصلحة لنا فيه " وكما التقت اطراف اقليمية ودولية متناقضة ومتصادمة كما يفترض، على ضرورة اجهاض التجربة الديمقراطية في العراق، كذلك تلتقي في هدف اخر " اجهاض تحرك الجعفري " ،
ان الجعفري يضع اللمسات الاخيرة على موعد الاعلان عن تجمعه الذي يحمل القائمون عليه طموحات كبيرة وعنوان عريض " تيار الاصلاح الوطني "، فهل سيتمكن من اصلاح ما احدثته المحاصصة من اضرار؟ ام ان تلك المعادلة باتت من القوة والمنعة وبما تمتلكه من دوافع ، اكبر من محاولات الاصلاح اي تكن نوايا اصحابها ؟ انها رهانات برسم القادم من ايام العراق .