 |
-
الحذاء أيضاً و أيضاً....حازم صاغية
الحذاء أيضاً وأيضاً
لقائل أن يقول إن ضربة الحذاء البغداديّة تنمّ عن تحدّ رمزيّ لسلطة غاشمة جائرة، ولسيّدها الذي يصعب أن تطاله اليد. وكان التسليم بهذا القول ليبدو ممكناً لو أرفق بالإشارة الى وعي زائغ وزائف استولى على ضارب الحذاء. ذاك أن استحقاق جورج بوش للإهانة، بحذاء أو بغيره، يبقى أقلّ من استحقاق التركيبة الطائفيّة للمجتمع العراقيّ، وعموم مجتمعاتنا، فيما جبروت بوش في العراق، وهو المحتلّ الغازي، أضعف من جبروتها وقدرتها على الأذى.
مع هذا لنسلّم بأن رمية الحذاء تندرج في التحدّي الرمزيّ الذي يلقى تسويغه في رمزيّته، ومن الرمزيّة هذه يستقي قدرته على مخاطبة رغباتنا الممنوعة، وشعورنا بالعجز حيال القوّة والجبروت، فضلاً عن تحريكه حسّ السخرية لدينا ونحن نرى «أوّل رجال الأرض» يُضرب بحذاء. وهذا ناهيك عن أن التلفزيون والانترنت في زمننا يسبغان الكونيّة على السخرية، كما على أيّ شيء آخر، فإذا بالقهقهة تُسمع في الصين كما في نيكاراغوا.
مشكلة التسليم بهذا المنطق أن الثقافة العربيّة تقتل الرمز والرمزيّ تماماً كما يتولّى التكرار قتل المعاني. فالاستقبال العربيّ لفعلة الزيدي نقلها من رمزيّة مفترضة الى ملحميّة بائسة يشي بؤسها ببؤسنا وينمّ عنه.
فحين يُكتب أن «38 مليون حذاء صفعت بوش على الانترنت» فتأويل ذلك أن ضرب الأحذية غدا، من جهة، بديل كلّ عمل آخر، وبات، من جهة أخرى، الطريقة المتوافرة والمقترَحة لإنجاز الأهداف المتوخّاة. وهو ما رأينا نظائر له، ولا نزال نرى، في صفحات كثيرة من تاريخنا الحديث: مرّة رددنا على التحدّيات بـ «قصائد عصماء»، ومرّة بإذاعات مجلجلة ثم محطّات تلفزيون صاخبة هائجة، وصولاً الى طيران الأحذية.
وهذا وذاك ما يبعث على القول إن وضعنا الذهنيّ العامّ ليس على ما يرام بتاتاً، وأن الآتي أدهى وأعظم. فهناك قافلة من المثقّفين والمؤرّخين الذين درسوا الفاشيّة في التاريخ الثقافيّ لأوروبا، معتبرين أن صعود اللاعقلانيّة، أو «تحطّم العقل»، حسب تعبير جورج لوكش، ما مهّد للصعود الفاشيّ وعبّد طريقه. والكلام، هنا، يطاول فلاسفة ومفكّرين عاشوا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. فكيف حين تتجسد اللاعقلانيّة لدينا، لا بمفكّرين وفلاسفة، بل بضاربي أحذية؟ وكيف حين يأتي هذا الهياج بعد هياجات ماثلة من صنف غزو صدّام الكويت، أو «تنفيذ اليهود» 11 أيلول، أو أننا أنجزنا النصر الاستثنائي في لبنان، أو غير ذلك؟
والحال ان ما من شيء يعوّضنا العقل إذا ما تحطّم العقل. حتى تحرير الأرض يغدو سخيفاً وسقيماً إذا ما ترافق مع مأساة كهذه. وليس صدفة أن تحرير الأرض، «أرض ألمانيا الكبرى»، صار مهمّة ملحّة بعد انتصار حزب اللاعقل، أي النازيّين. وليس صدفة، في المقابل، أن يغدو مثل هذا التحرير أبعد فأبعد في ظلّ انتصار اللاعقل. وليس صدفة، ثالثاً، أن تزداد إصابتنا بتحرير الأرض، لفظاً وتشنّجاً، كلّما اكتشفنا عجز العقل عن أداء هذه المهمّة.
والمظلوميّة لا تعفي أحداً من مسؤوليّاته، وبعضُ المسؤوليّة إهداء هذا الكون الذي نتشارك فيه شيئاً آخر غير القتل والقتال، أو، في حالات العجز، التلويح بما يرمز إليهما. فالشكّ لا يرقى الى مظلوميّة السود في أفريقيا ثم في أميركا. بيد أن هؤلاء، وقبل عقود على وصول باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتّحدة، غزوا بيوت البيض بالموسيقى والرقص ونجوم الرياضة. وهم ينتزعون لأنفسهم حصّة تتزايد يوماً بعد يوم في عالم هم شركاء فيه. أما أحذيتهم فتركوها في البيوت.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |