تقدم المالكي يطلق إحتمالات التغيير في إنتظار





كشفت النتائج الأولية لانتخابات مجالس المحافظات التي أجريت أخيراً في العراق عن حقائق كثيرة، كما أشرت الى انعطافات مهمة في طريق العملية السياسية الجارية في البلد منذ نحو ست سنوات، فإذا كانت الانتخابات السابقة التي أجريت العام 2005 وضعت «التيار الديني» في موقع الصدارة، وأعطته زمام قيادة البلد، فإن فشل هذا التيار، بقواه كافة، أدى الى ما آلت إليه هذه الانتخابات من نتائج حكمت عليه بالتراجع والفشل، ولم تجده نفعاً «الشعارات الدينية» التي أطلقها كدعاية انتخابية في محاولة لاستفزاز مشاعر «جماهيره السابقة»...


كما لم يجده نفعاً استخدام الرموز والشعائر الدينية (على رغم أن المفوضية العليا للانتخابات قد منعت توظيف ذلك في الدعايات الانتخابية وحذرت من اللجوء الى مثل هذه الأساليب في محاولة اجتذاب الناخبين)، ولا حمتها مثل هذه الأساليب من التراجع الذي شهدته.

فقد توجه «المواطن - الناخب «في هذه المرة صوب تيارات أخرى وضع أمله في توجهاتها المدنية، وفي برامجها التي تضمنت وعوداً بإنجاز مشروع وطني حقيقي يخدم المواطن، والبلد، ويشيع الأمن والاستقرار، ويوفر العيش المقبول.


كانت المؤشرات والملاحظات السلبية التي سجلها «المواطن - الناخب» على القوى والأحزاب التي قادت العملية السياسية في السنوات الأربع الماضية كثيرة، لعل ابرزها وأهمها:

- أولاً: في المستوى الأمني وجد هذا «المواطن - الناخب» أن أمنه الشخصي، وأمن مجتمعه وبلده ليس فقط في وضع غير مأمون ولا مستقر، وإنما جنح الى الفوضى التي حصدت أرواحاً كثيرة. ترافق هذا مع إشارات مدعومة بالقرائن الى أن «ميليشيات» الأحزاب والقوى المتنفذة ساهمت في إشاعة هذه الفوضى، وفي تهديد أمن المواطن من طريق الاستهداف الشخصي له، وبالتالي، تعطيل الحياة في البلد تعطيلاً شبه كليّ، ما اضرّ بمصالح الغالبية العظمى من المواطنين، وهبط بالحال الاجتماعية الى درك من التردي والعوز والفقر والحاجة الى كل شيء.


- ثانياً: ترافق مع هذا الوضع، وضع آخر شائك اجتماعياً وإنسانياً تمثل في ارتفاع نسبة البطالة بين قوى العمل الفعلية، بحيث وصلت الى أكثر من 60 في المئة بحسب الاحصاءات والتقارير الرسمية، الأمر الذي تسبب في حصول حالات مرعبة من التردي المعيشي، ما ساعد على شيوع الجريمة، وزيادة الانحرافات، فضلاً عن تعطيل القطاعات الإنتاجية. صاحب ذلك تدهور الزراعة وتراجع الإنتاج الزراعي الى المستويات الدنيا، ليصبح البلد، معتمداً على الخارج، في أبسط لوازم الحياة اليومية، وقد ساهم ذلك في شيوع ظاهرتين سلبيتين: استنزاف مداخيل العائلة العراقية المالية جراء تصاعد أسعار المواد المستوردة... ونشوء جيوش من العاطلين.


- ثالثاً: تدني مستوى الخدمات المقدمة للمواطن في مختلف مجالات حياته.

فإذا اعتبرنا الكهرباء والماء الصالحة للشرب من اللوازم الأساسية (وهما مسألتان كثر النقاش فيهما واشتد في خلال السنوات الست الماضية، وتكاثرت الوعود، من دون إنجاز، في شأنهما) فان الإشارة فيهما الى تفاقم التردي أكثر من الإشارة الى التحسّن البطيء. أما الخدمات الأخرى فتكاد تكون شبه معدومة: الحفر والأخاديد تملأ الشوارع، ومياه الصرف الصحي شكلت في كثير من الأحياء في المدن، ومن العاصمة بغداد، مستنقعات تنشر الأمراض. كما أن الخدمات الصحية، متردية بسبب الهجرة الكبيرة للأطباء الى خارج العراق ولأسباب أخرى.


وقد أدى الوضع الصحي، بتشعب مشكلاته، الى عودة كثير من الأمراض التي كانت قد غابت من حياة العراق والعراقيين (كمرض السلّ الرئوي مثلاً)، فضلاً عن شيوع أمراض جديدة يشخصها بعض المتخصصين بأنها من نتائج الحروب والأسلحة المستخدمة فيها.


- رابعاً عدم تحقيق حالة من العيش المستقر لشرائح كبيرة من المجتمع، كالشرائح المشمولة بالرعاية الاجتماعية، وذوي الشهداء، وسواهم ممن وجدوا أنفسهم في حالة «عراء معلن» – هذا إذا ما علمنا أن هناك نحو مليوني امرأة أرملة (أكثر من نصفهن ترمّل بعد الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003)، ونحو خمسة ملايين طفل يتيم معظمهم بلا تعليم، وغالبيتهم يعيشون مشردين، وتمتلئ بهم الشوارع والأسواق، ويمارسون كل المهن المتاحة، حتى ما كان منها يمثل انتهاكاً لطفولتهم. وبعضهم جنح نحو الأعمال الإجرامية التي تجنده لها فئات وجماعات لها برامجها في تخريب المجتمع، وبالتالي البلد ككل.


السؤال الذي يثار هنا هو: كيف اختار «المواطن - الناخب» قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي وجعلها في مراكز الصدارة والأولوية، حيث أحرزت الموقع المتقدم في معظم محافظات الوسط والجنوب، والمالكي هو نفسه رئيس هذه الحكومة التي يسجل عليها هذا المواطن كل هذه الملاحظات، وهو أيضاً من يتزعم «حزب الدعوة الإسلامية» باتجاهه «السياسي الديني» الذي يأخذ عليه هذا المواطن «الانحراف» بالعملية السياسية نحو «وجهة طائفية»؟

يجيب هذا المواطن عن مثل هذا السؤال- الذي كثيراً ما طرح في خلال الحملات الدعائية التي سبقت الانتخابات – بأن طروحات الرجل تعد بالتغيير، والى إجراء «مصالحة وطنية» يؤمل أن تكون حقيقية وفعلية في هذه المرة، وأن تثمر نتائج ملموسة، وعلى الأرض، لأن مثل هذه المصالحة إذا ما تحققت ستكون هي وحدها الضامن لاستقرار البلد.


ثم ان المالكي يعد بتحسين الخدمات العامة، وإيجاد الفرص المناسبة للعمل لاستيعاب جزء، ولو يسير، من جيوش العاطلين.
والى جانب ذلك وعده بمحاسبة من أطلقوا أيديهم في المال العام فعبثوا بمقدرات البلد وأحوال ناسه.


هذه الأمور وسواها جعلت التصويت للمالكي يحقق له النسبة الأكبر من الأصوات بين المتنافسين على مقاعد مجالس المحافظات، في وقت تراجعت القوى التي أتاحت لها الانتخابات الماضية الهيمنة على كل شيء.


المؤشر الآخر في توجهات «المواطن - الناخب» نحو القوائم العلمانية أكثر من توجهه نحو سواها، هو تعويل هذا المواطن عليها، في حال الفوز، بأن تقوم بعملية إنقاذ حقيقية للبلد وإنسانه مما تردى فيه الحال. وقد جاء تصدر قائمة يوسف الحبوبي المعروف بتوجهه القومي العربي، على قوائم المتنافسين في مدينة مثل كربلاء دليلاً قاطعاً على الوعي الجديد لدى الناخب العراقي في اختيار من يمثله.


وهناك من يقول إنه انتخب المالكي، أو إحدى الشخصيات العلمانية - الوطنية، في توجهاتهم الأخيرة التي أعلنت عنها برامجهم الانتخابية، وليس الأشخاص بانتماءاتهم الحزبية والفئوية.
فهم لم ينتخبوا المالكي رئيس «حزب الدعوة الإسلامية» - الذي هو الآخر حزب (ديني - سياسي) له توجهاته في هذا المجال أو ذاك - وإنما انتخبوا المالكي صاحب «البرنامج الوطني» الذي يذهب هذا المواطن الى أنه برنامج لا يمثل توجهاً (دينياً - سياساً)، وإنما هو برنامج وطني عراقي - يأمل في أن يظل كذلك في التطبيق بعد ظهور نتائج الانتخابات.


والسؤال الأخير الذي يثار هنا سؤال عن مستقبل مثل هذا التوجه، وما يحمله لعراق السنوات المقبلة. وهو سؤال أثاره غير مراقب للوضع الحالي في العراق، واضعين الجواب المنتظر عنه في مفصلين:

- المفصل الأول هو مدى صدقية الفائزين الجدد، والمفصل الثاني ما سينفذون من وعودهم للمواطن.

- وعلى هذا المفصل، وفي ضوئه سيتحدد موقف هذا «المواطن - الناخب» من المتنافسين في الانتخابات التشريعية المقبلة نهاية العام الحالي، وهي التي ستتغير في ضوء نتائجها البنى المركزية في الدولة، من البرلمان الى الحكومة. وهناك اليوم نوع من الإجماع الشعبي على أن تكون الحكومة المقبلة «حكومة كفاءات» لا «حكومة محاصصات».


وحتى ذلك الحين ستكون الأشهر المقبلة أشهر رهان فعلي بين الشخصيات والقوائم الفائزة في هذه الانتخابات: بتنفيذ برامجها، ووضع ما وعدت به المواطن من إنجازات موضع التحقيق، فهي فرصتها الكبيرة والأخيرة في أن تنال القبول، أو الرفض.



المصدر: الحياة