لن تتغير اوضاع العراق قبل ان يغير العراقيون ما بأنفسهم
محمد عبد الجبار :
كثيراً ما يسألني البعض: هل سيتغير وضع العراق الى احسن؟ ومتى يحدث ذلك؟ ان حدث؟ وسبب السؤال المشروع هو ان المواطن العراقي مازال يعاني الكثير وعلى مختلف المستويات، وما زال هذا المواطن يشعر بضخامة عملية التغيير التي ينبغي ان تطال كل شيء بعد ان خرب صدام وحزبه المقبور كل شيء في العراق. كما ان هذا المواطن ما زال يشاهد ويلمس الكثير من مظاهر الفساد السياسي والفساد الاداري والفساد المالي على يد بعض افراد النخبة السياسية الجديدة التي تصدرت البلاد بعد سقوط نظام البعث المقبور.
وكنت في كل مرة أسأل هذا السؤال اجيب بتلاوة آية قرآنية شهيرة تقول”ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم “ وانا اعني ما يعنيه القرآن الكريم: ان الامور في العراق لن تتغير نحو الافضل، ما لم يغير العراقيون من انفسهم تلك النفوس التي ران عليها الكثير بسبب ما حصل ابان الحقبة البعثية الصدامية البغيضة، وهذه الآية تشير الى مستويين من التغيير هما:
اولاً: التغيير على مستوى البنى الفوقية للمجتمع، وهي تشمل النظام السياسي والاجتماعي والامني والاقتصادي والثقافي والى آخره، وهو ما تشير اليه عبارة ”ما بقوم“.
وثانياً: التغيير على مستوى البناء التحتي للمجتمع وهو ما تشير اليه عبارة ”ما بأنفسهم “. والبناء التحتي للمجتمع هو المحتوى الداخلي له، والمحتوى الداخلي يتكون من عنصرين هما:
اولاً: الصورة المستقبلية التي يؤمن بها المجتمع. اي الفكرة. ثانياً: الارادة الباعثة الى العمل على تحقيق هذه الصورة المستقبلية في الواقع، وهذه الارادة تنبع من عنصرين، هما: اولاً: الايمان بأن تحقق هذه الصورة المستقبلية، اي الفكرة، يتطابق مع المصلحة الذاتية للافراد. ثانياً: الايمان بقدرة الافراد على تحقيق هذه الصورة. وفي حالتنا العراقية اقول ان التغيير لن يحصل ما لم تتوافر عناصره المذكورة اعلاه. نحتاج الى صورة مستقبلية عن الدولة والمجتمع، وصورة الحياة فيهما قادرة على شد الافراد اليها، فيسعون الى تحقيقها. وقد قدم التيار الاسلامي الديمقراطي صورة مستقبلية للعراق، اثبتت الاشهر الستة الماضية انها قادرة على شد الناس اليها، حيث تجاوز عدد المنتمين الى التيار، اي عدد الذين آمنوا بالصورة المستقبلية التي قدمها، اكثر من 25 الف عضو، ولو كان التيار يملك موارد مالية اكثر، لفتح المكاتب وتغطية نفقات النشاطات المطلوبة لتجاوز العدد هذا الرقم بنسبة كبيرة جداً. واما الصورة المستقبلية فتتلخص بمشروع اعادة بناء الدولة العراقية على اساس الديمقراطية والعدالة والتنمية وذلك على النحو التالي: اولاً: الآليات الديمقراطية، بمعنى اسناد تولي المناصب العليا في الدولة الى الارادة الشعبية المشخصة اما بالاستفتاء العام المباشر او عبر المجالس التمثيلية او كلاهما. وهذا يتطلب توفير الاسس الدستورية والقانونية لضمان الحريات السياسية والمدنية والتعددية الحزبية وقيام المؤسسات التمثيلية، وهي امور جوهرية لضمان التعبير الحر عن الرأي الشعبي، كما يتطلب اقرار مبدأ التداول السلمي للسلطة. ان ديمقراطية الدولة لا تعني:
أ: دكتاتورية الاغلبية واحتكارها للسلطة، او ادوات الوصول اليها.
ب: او اضطهاد الاقلية ومصادرة حقها في المشاركة.
ج: او انفراد الاقلية بالسلطة والسيطرة كما هو حاصل الآن.
ثانياً: الوطنية، بمعنى ان الدولة تعد الكفاءة الشخصية والمواطنة الصالحة اساساً في تولي المناصب والمسؤوليات في الدولة والمجتمع.
ان الامتيازات الطائفية مثلها مثل الاضطهاد الطائفي ظواهر متناقضة مع الطبيعة الوطنية للدولة. ان المشاركة الاجتماعية العامة في المناصب العامة، بمعنى مساهمة مختلف التكوينات الاجتماعية في تولي المناصب دليل على ديمقراطية الدولة ووطنيتها، كما ان انحصار تولي المناصب العليا بفئة قليلة طائفة كانت ام حزباً ام غير ذلك، بالشكل الذي قامت عليه الدولة العراقية منذ نشأتها، فهو امر يتناقض مع الوطنية والديمقراطية.
ثالثاً: اللامركزية او الفيدرالية، يجب ان تكون الدولة العراقية دولة لا مركزية، بمعنى التوسع في توزيع السلطات بين المركز وبين الاقاليم او الولايات او المحافظات بالشكل الذي يحول دون تمركز السلطة في يد الحكومة المركزية. وهذا يتطلب اعطاء المحافظات والمسؤولين المحليين صلاحيات واسعة في الامور التي تخص محافظاتهم ومناطقهم ومسؤولياتهم وستبقى قضايا الدفاع والسياسة الخارجية والتخطيط الاقتصادي ضمن صلاحيات السلطة المركزية اما مسائل التعليم والمناهج الدراسية والاعلام والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والزراعية والصناعية فسوف تحتل مساحة كبيرة في صلاحيات الادارات المحلية، لأن هذه الامور يجب ان تتم بالتناسب مع المتطلبات المحلية للمحافظات سواء من الناحية الطبيعية ام الاجتماعية والثقافية.
وقد يتطلب هذا اعادة النظر بالتقسيم الاداري ”المحافظات“ للعراق لايجاد وحدات ادارية متجانسة يمكن من خلالها تطبيق اللامركزية بصورة سليمة، وسوف تحتل المنطقة الكردية ”كردستان“ موقعاً خاصاً في اعادة النظر هذه بعد الاقرار بحق تقرير المصير بالنسبة لأكراد العراق الذين اختاروا الفيدرالية كصيغة لتقرير المصير. ان الدولة العراقية الجديدة يجب ان تحترم هذه الارادة.
رابعا: الانسانية، بمعنى ان الدولة العراقية يجب ان تقر مبادئ حقوق الانسان السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية المعلنة في الوثائق العالمية، ويجب ان تدخل هذه الحقوق في صلب تشريعات الدولة بما في ذلك الدستور الدائم. ان الدولة العراقية الجديدة يجب ان تتقيد بهذه الحقوق في تشريعاتها وممارساتها وعلاقاتها مع مواطنيها. ان انتهاكات حقوق الانسان بما في ذلك اشكال التمييز الطائفي او القومي يجب ان تعد من الجرائم التي يعاقب عليها القانون.
خامساً: القانونية والدستورية، بمعنى ان الدولة العراقية يجب ان تكون”دولة القانون “ التي تعلو سلطة القانون فيها على سلطة الحاكم، وتكون ممارساتها وممارسات مواطنيها والعلاقات بينهم قائمة على اساس القانون.
سادساً: احترام الهوية الاسلامية للمجتمع العراقي، مع حفظ الدين من تدخل الدولة في شؤونه الخاصة، مع احترام الاديان الاخرى وحقوق اتباعها بممارسة طقوسهم واحوالهم الشخصية بموجبها. هذا على مستوى الصورة المستقبلية التي تشكل المضمون الجوهري للمحتوى الداخلي للمواطن العراقي بحسب المشروع السياسي للتيار الاسلامي الديمقراطي. اما على مستوى الارادة فنحتاج الى تعبئة المواطنين باتجاه العمل من اجل تحقيق هذا المشروع وهذا لن يتحقق ما لم يشعر العراقيون بأن تحقيق هذه الصورة المستقبلية النموذجية سوف يحقق مصالحهم الفردية والشخصية بصورة مباشرة وليس هذا عيباً فكل انسان يسعى الى تحقيق مصالحه الفردية والشخصية، حتى المؤمن بالآخرة ويسعى لها سعيها، انما هو يؤمن في حقيقة الامر بأن العمل للآخرة يحقق مصالحه الفردية بصورة مباشرة، غاية ما في الامر ان البعض يسعى الى تحقيق مصالحه الفردية بصورة غير مشروعة، بحساباته ان ذلك اسرع، عبر الغش والاحتيال والاختلاس والسرقة المنهجية والمنظمة لموارد الدولة والمجتمع، كما يفعل الآن مع الاسف بعض المتنفذين السياسيين والحزبيين وبعض المقاولين والتجار، في حين يسعى المخلصون الى تحقيق منافعهم الفردية من خلال الطرق الاصولية والشرعية وفي اطار ما يمنحه القانون او العرف او الاخلاق او الدين من قدرات على التحرك، من جهة، وفي اطار مشروع واسع أوسع يشمل مصالح الجميع. نحتاج ان يشعر العراقي ان اقامة دولة ديمقراطية دستورية تحترم حقوق الانسان، على سبيل المثال، يؤدي الى ضمان حقوقه الاقتصادية التجارية ويحقق طموحاته السياسية. غاية ما في الامر ان المواطن العراقي بحاجة الى ان يشعر ان تحقيق مصالحه الفردية عبر هذا الطريق الجماعي الوطني الاطول نسبياً هو افضل من تحقيق هذه المصالح عبر الطريق الفردي الاقصر نسبياً. نحتاج الى عراقيين يعتقدون ان مصالحهم الشخصية يمكن ان تتحقق بصورة افضل عبر المشروع الوطني العراقي الشامل، بما يتطلبه من اخلاص وتفان وتعاون مع الآخرين ووطنية رفيعة افضل من المشروع الفردي الشخصي الاناني. ان سيطرة هذا الشعور سوف يغير الكثير من المعادلات الحاكمة للسلوكيات اليومية للمواطنين في الوقت الحاضر، وهي سلوكيات ما زالت متأثرة للأسف بالتربية الفاسدة والمدمرة التي اتبعها النظام الدكتاتوري الفرعوني البعثي طيلة 35 سنة. لقد عملت تلك التربية على حصر ذهنية المواطن العراقي وسلوكياته في دائرة ضيقة جداً لا تتجاوز الهم اليومي في الحصول على مزيد من المال ومزيد من الخبز بعيداً عن الهم الوطني. انني اصطدم الآن بمواطنين لا يعيشون الهم الوطني بقدر ما يعيشون الهم الفردي بطريقة انانية مدمرة واعتقد ان هذا من بقايا الحقبة”البعث- صدامية “ المقيتة. ما نحتاج اليه الآن هو اعادة تعشيق الهم الفردي الخاص بالهم الوطني العام على قاعدة ان الهم الوطني العام يحقق الهم الفردي الخاص، وليس العكس.
ان مصالح الافراد تتحقق في ظل مشروع وطني عام، لاعادة بناء الدولة والوطن على الاسس التي يطرحها التيار الاسلامي الديمقراطي، في حين المصلحة الوطنية العامة لا تتحقق في ظل المشاريع الفردية الشخصانية الانانية، وتنطبق هذه القاعدة على الزعيم السياسي، كما تنطبق على التاجر في السوق، كما تنطبق على المواطن الموظف في دوائر الدولة. ان عالم الوطن الرحيب يتسع لكل العوالم الفردية الاصغر، لكن هذه العوالم الفردية الاصغر لا تحتوي العالم الوطني الرحيب. نحتاج عراقيين يشعرون بأن بمقدورهم العمل على تحقيق المشروع الوطني ومن خلاله خدمة مصالحهم الفردية، اي الى عراقيين يشعرون بالثقة العالية بكفاءتهم وقدراتهم على المشاركة الفعالة في تحقيق المشروع الوطني العام، مشروع اعادة بناء الدولة والوطن بعيداً عن الاتكالية واليأس.نحتاج الى عراقيين يغادرون الى الابد دائرة اليأس المتمثلة في قولة”آني شعلية “ وقولة”كل شيء مرتب “. أقول لهؤلاء جميعاً ما قاله الرسول محمد”ص “ للمسلمين”كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته “ وانه لا يوجد من يرتب الامور بالنيابة عنكم، واذا حصل هذا لا سمح الله فلا تقبلوا به لأن الامر انما هو امركم، لا يتولاه الا من وليتم ولا يجوز ان يرتب بغير مشورة معكم.