[align=center]عذراً ايها المحللون السياسيون ... لا عودة للأيام الصفراء[/align]
[align=left]فارس حامد عبد الكريم[/align]
[align=justify]
ذهب بعض المحللين السياسيين إلى القول بان هناك بوادر لعودة العنف الطائفي إلى العراق اثر وقوع عدد من التفجيرات الإجرامية التي استهدفت الأبرياء كما هو الأمر في كل مرة.
فهل تستند هذه التحليلات إلى مبررات تدعمها؟ وهل هناك حقاً فرصة لعودة الأيام الصفراء إلى حياة العراقيين؟ وهل تنطلي الخدعة ذاتها مرة أخرى على من خدعوا فكانوا مخالب بيد الأعداء يحركونهم عن بعد ليحولوا حياة مواطنيهم إلى جحيم بينما كان أولئك الأعداء يتمتعون بكل أسباب العيش الرغيد، وكان مما يزيد من سعادتهم ونشوتهم المرضية ان يروا انهار الدم العراقي تسيل في كل مكان من ارض الرافدين دون ان يهتز لهم جفن ودون ان يمنعهم من ذلك وازع من دين أو ضمير أو أخلاق؟
الحال ان عقلية العراقي تحمل حسب الأصل ثقافة مضادة للطائفية والتطرف فضلاً عن حبه الخالص المتفرد لوطنه، وان ما حصل خلال الأعوام الماضية هو أمر طارئ على ثقافة العراقي وعلى أسلوب حياته، ومما لاشك فيه ان لطبيعة الناس وثقافتهم وتاريخهم دور كبير في توجيه القيم وإضفاء الطابع الحضاري المميز عليها وفي رسم شكل وتوجه الحضارة ، وعندما نقارن بين الروح الإسلامية التي نمت في حواضر العراق، البصرة والكوفة وبغداد، قبل نحو ثلاثة عشر قرناً فصاعداً، وبين الأفكار والفتاوى السلفية والوهابية ذات الطابع البدوي التي نشأت في الجزيرة العربية أواسط القرن العشرين وبرزت وانتشرت بوضوح قبيل نهايته ندرك بوضوح ، رغم الفارق الزمني الكبير ، اثر طبيعة البشر في توجيه القيم وإضفاء طبيعتهم الخاصة عليها.
ويبدو ان هناك مجتمعات رغم تنوعها العرقي مهيأة من الناحية النفسية والثقافية لصنع الحضارات وإدارتها أكثر من غيرها، وليس الأمر مجرد صدفة، وهناك الكثير من الأدلة والشواهد على ذلك، فالشعوب التي سكنت وادي الرافدين والهلال الخصيب والنيل على سبيل المثل، بنت حضارات عظيمة على مر التاريخ، ونقول ان الأمر ليس صدفة بسبب ان هذه الحضارات تعرضت لجملة وقائع وعوامل أدت إلى انهيارها تماماً، أي سويت مع الأرض كما يقال لعدد من المرات، ولكنها ما لبثت ان احتيت من جديد في كل مرة بمجرد توفر العوامل اللازمة لنهضتها، وبنت شواهد وقدمت ثقافات خالصة أغنت الفكر الإنساني في وقت كانت فيه الأدوات الفنية والتكنولوجية في مرحلتها البدائية.
وقد أصبح التحضر في عالمنا المعاصر صفة عالمية بسبب تطور التكنولوجيا وسهولة نقلها من مجتمع لأخر، ومع ذلك بقي عدد محدود من المجتمعات تحمل روحاً مضادة للتطور وان ارتدت من الناحية الظاهرية ثوب التحضر، فبقيت ارضاً خصبة لنمو الأفكار البدائية المتعصبة مع رغبة في تصديرها إلى الثقافات الأخرى.
والعراق ليس ارضاً خصبة لنمو ثقافة الموت والتعصب الأعمى وهناك العديد من الشواهد على ذلك....
في زيارة رسمية لي الى احد الدول الغربية للمشاركة في دورة تدريبية، قال لي احد الأساتذة لقد حدثت طلابي وزوجتي عنكم، وعن الثقافة الرفيعة التي يحملها أبناء العراق، فأضحوا في شوق الى رؤيتكم، وهكذا لبيت دعوته إلى القاء محاضرة في كلية العلاقات الدولية والى زيارته في بيته مع بقية أعضاء الوفد.
وبعد انتهاء العشاء سألتني زوجته عن سر الصراع بين السنة والشيعة، والقتال الدائر بينهم في العراق.كان ذلك في نهاية سنة 2005.
فقلت لها حتى تعرفي طبيعة العلاقة بين السنة والشيعة في العراق سأروي لك هذه الحكاية:
في سفرة لي في تسعينيات القرن الماضي مع والدي القاضي وزوجتي وابنتي التي كانت لاتزال طفلة تجلس في حضن امها،وكنا بصدد قضاء بعض الأعمال في مدينة الحلة ومن ثم زيارة العتبات المقدسة في كربلاء، وعندما تجاوزنا مدينة اللطيفية بقليل حصل عطل في عجلتنا التي تعرف في العراق بالبرازيلي ،حيث التصق مسند العجلة الأمامي واشتعلت النار في الغطاء البلاستيكي المحيط به.
تمكنت من قيادة العجلة بصعوبة الى مجموعة من المحلات القريبة من سكن أبناء عشائر تلك المنطقة،وسرعان ما التف حولنا عدد من أبناء المنطقة للمساعدة، وأرشدونا الى محل قريب للتصليح حتى تقدم ألينا شيخ جليل من أهل المنطقة وبعد السلام طلب من والدي ان يتفضل والعائلة على حد تعبيره للاستراحة في مكتبه لحين انجاز تصليح السيارة، وكان داره خلف مكتبه وهاتف اهله وطلب منهم استقبال زوجتي.
وبعد تجاذب أطراف الحديث في المكتب لأكثر من ساعتين والتعارف بينهم، حيث ان موطن عشيرتنا لا يبعد كثيراً عن تلك المنطقة ،تعرف احدهم على اهل الأخر وأجداده وتذاكروا في علاقات المصاهرة والنسب بيننا، ثم سأله والدي عن مصير العجلة ، فأخبره الشيخ إننا سنستلمها بعد وجبة الغداء في داره،ولم يفلح اعتذار والدي الشديد عن ذلك .
وبعد اكمال وجبة الغداء الفخمة وتناول الشاي في مضيف داره، كرر والدي سؤاله عن العجلة فاخبرنا ان العجلة قد جهزت تقريباً وان سبب التأخير هو عطل ضاغطة المساند في محل التصليح، وقد وجه الشيخ بفتح المسند وحامله والذهاب به لضغطه في مدينة الحلة التي تبعد حوالي خمسين كيلومتراً عن القرية، فأعرب الوالد أسفه لما تسبب لهم من إزعاج.
وعند سؤال والدي عن تكاليف التصليح وقيمة المسند، بدت إمارات الانزعاج على وجه الشيخ وقال:
(مو عيب ابو فارس وانت ابن شيوخ، خاف تريد تدفع فلوس الغدة فد مرة، لو اني عاطل يم ديرتكم جان أخذت فلوس مني).
فأجابه الوالد خجلا بالنفي.
فاستدرك الشيخ قائلا :اذا كيف تطلب مني فعل ذلك، والله معاكم.
قالت زوجة الأستاذ: يعني صلح السيارة وقدم لكم وجبة الغداء مجاناً.
قلت نعم رغم اننا لم نكن نعرفه مسبقاً ومذهبنا مختلف ولكننا ابناء وطن واحد وتاريخ واحد ودين واحد وما يجمعنا أكثر مما يفرقنا.
أجابت بعد برهة من التفكير: اعتقد ان من الصعوبة ان تجد مثل كرم هذا الشعب.
ان مظاهر الوحدة الوطنية بين ابناء العراق كثيرة ومتنوعة، فقد عادت من جديد حالات الزواج بين ابناء المذهبين واحتيت علاقات الصداقة والجلسات المشتركة بينهما، ومشاركة كل طرف أفراح الأخر وأحزانه بعد ان مرت بفترات شاب فيها تلك العلاقات نوع من الحساسية رغم ان العديد منها كان قد بقي على حاله ولم يتأثر،
ان محاولات من تلطخت ايديهم بدماء العراقيين لاثارة الفتنة الطائفية من جديد ستبوء بالفشل ولن تزيد العراقيين الا تماسكاً بعد ان ادركوا اهداف ونوايا اعدائهم اياً كانت وسائل هذا العدو ومخططاته اللئيمة.
وبصفة الشهادة الحرة أقول ... انتهت حكومتنا الوطنية المنتخبة من ملف الآمن او كادت ، ولا يرى ذلك إلا أعمى ، وهاهم رموز الشر والجريمة الصفراء يقعون في قبضة العدالة واحداً بعد أخر ، ولن يفلت مجرم عاجلاً أم آجلاً ، فالدولة العراقية نهضت من جديد بقوة ومصدر شرعيتها الشعب الذي انتخبها في يوم كأنه عيد من الأعياد وهو بعد الله تعالى ناصرها ومقومها... كما ان المصالحة الوطنية سائرة بخطى حثيثة نحو التحقق ، ولم يسمع بذلك إلا من كان به صمم ، والديمقراطية في العراق تنمو وتزدهر ولا ينكر ذلك إلا حاقد مسموم ... كل ذلك تحقق بعد ان أدرك الجميع ان الحل وطني وان مصلحة العراق وشعبه فوق أية اعتبارات حزبية او طائفية او إقليمية...
نعم لقد ولى بغير رجعة الزمن الأصفر ،زمن الموت والقتل والذبح ... ووجود حالة هنا وهناك لا يعني ان الزمن عاد للوراء ، فالزمن لا يعود للوراء في العراق الجديد بعد اليوم ابداً بسواعد العراقي الأسمر وهلاهل العراقية الحلوة.
اليوم شعب العراق كله ثقة وأمل وتطلعات مشروعة ، بعد ان أدركوا ان جوهر الخديعة هو ان يقتل العراقي أخيه العراقي. نعم العراق الحر اليوم وطن العرب والأكراد والتركمان وكل القوميات، بلد الإسلام والمسيح والصابئة، بلد الشيعة والسنة.
بلد الأضرحة والمقامات المقدسة ، بلد مقام حيدر الكرار داحـي بـاب خيبـر ...وبلد مقام أحفاد الرسول الحسين وأخيه العباس وموسى الكاظم والأماميين العسكريين وبنات الحسن ... عليهم السلام ، بلد مقام الإمام ابو حنيفة النعمان والإمام عبد القادر الكيلاني ... رضي الله عنهم وأرضاهم .
بلد أبناء العشائر الأجاويد الكرام الأباة أهل الفضل والغيرة والناموس ، العامرة مضائفهم دوماً بالكرم والجود. بلد الحضارات الكبرى الأقدم في تاريخ البشرية.
لقد خسر العراقيون في الزمن الذي ولى ، أشياء عزيزة كثيرة ، منها النفس والولد والمال والحياة المطمئنة السعيدة ، ولكنهم لم يخسروا شجاعتهم ، فالأسد العراقي بقى اسداً رغم هول الكارثة ، ورغم البطش والقسوة البالغة ، رغم الجوع والمرض والفقر ، وما انتصارات جيشنا وشرطتنا الوطنيين، رغم حداثة تشكيلهما،على تنظيمات مجربة تقودها مخابرات دول أجنبية وتوجهها وتمولها برصيد مفتوح ، إلا دلالة على بقاء الأسد اسداً. وانه حين يكسر قيوده الطائفية فانه سيبتلع كل أعدائه.
نعم الطائفية قيد على حرية العراقي تغل إرادته وقدرته، وهذا ما أدركه أعداءه الذين ما برحوا يتبعون معه سياسة فرق تسد القديمة.. إلا انه تمكن من كسرها وردها خائبة بوحدته الوطنية الواعية.
ومع كل ما تحقق بقي عدو ينبغي ان ننتبه إليه بجدية، عدو خطر يمكن ان يطيح بأقوى الحكومات، انه الفساد الذي سرى ونما في جسد الدولة منذ ذلك العهد البغيض لينمو ويتسع في ظل انشغال الدولة والشعب بمقاتلة الإرهاب حتى أصبح في بعض الحالات يمارس علناً وبأساليب ملتوية تحت ستار التعقيب والدلالة، فأضحت ظاهرة المعقبين ظاهرة منتشرة قرب اغلب الدوائر ذات المساس المباشر بحاجات الناس، مما يتطلب وضع الخطط الوقائية لمكافحة مثل هذه الجرائم التي هي والإرهاب وجهان لعملة واحدة، بالنظر لتشابه أثارهما التخريبية على الاقتصاد الوطني والحياة الاجتماعية.
ونقول بثقة ان العراق، ما دام العراقي محباً لوطنه حباً جما قل مثيله في حب الأوطان، وانه اينما حل وارتحل يبقى في حنين الى وطنه العراق ونخيله الباسقات ، فان العراق يشق طريقه وسط زحام الأعداء بكل ثقة وانه لمنتصر وانه سائر نحو التطور والأعمار ، وقد روي عن الإمام علي عليه السلام قوله: (عمرت البلدان بحُبِّ الأوطان) وقوله: ( من كرم المرء بكاؤه على ما مضى من زمانه، وحَنِينُهُ إلى أوطانِه ).
وعلى هذا الحال فاننا نرى ان فرص عودة الزمن للوراء هي فرص ضئيلة وان العراقيين لن يعودوا لاستنشاق هواء الايام الصفراء بإذن الله تعالى.
************
فارس حامد عبد الكريم العجرش الزبيدي
ماجستير في القانون
نائب رئيس هيئة النزاهة سابقاً
باحث في فلسفة القانون
والثقافة القانونية العامة
بغداد ـ العراق
[/align]