إيران وطريق الشفقة المسدود
ما لا يحتاج الى التذاكي في بلاد (جهانبخش) (الحلقة الأولى)
ا
سرمد الطائي
من البديهي في عرف الثورة الايرانية، ان يكون للفقيه صلاحية "إلهية" للرقابة على انتخابات البرلمان من خلال مجلس الصيانة المعين من قبل المرشد، رغم ان المرشد يتوارى خلف مجلسه وشيخه (آية الله جنتي) ويظهر بدور الوسيط في حل الخلافات. كان جنتي مقتنعاً بلعب دور (القناع) هذا، بيد ان الضغوط والاحتجاجات المتزايدة جعلته يصرح للصحافة بأن استراتيجية الرقابة يحددها آية الله خامنئي، في حديث نقلته صحيفة شرق الايرانية الاسبوع الماضي... "هو الذي يقول لنا كل مرة: عليكم بالتساهل. او يأمرنا بأن نتشدد في منح الأهلية".
ان تصريح جنتي هذا يجعلنا نتعامل بطريقة أخرى مع المناشدات التي يطلقها رئيس البرلمان كروبي وسواه، لمرشد الثورة بأن يتدخل لثني مجلس الصيانة عن عزمه. انها في الحقيقة التماس بأن يغير المرشد رأيه ويسمح لجنتي بالتساهل.
لم يكن محمد رضا خاتمي بحاجة الى تحليل معمق لكي يقول بأنه تنبأ مسبقاً بأزمة الترشيحات هذه. "ان سيناريو الإقصاء كان متوقعاً". قال ذلك بعد تقديمه الاستقالة مع 124 نائباً يوم السبت.
يظهر عارياً في تلفزيون ايران
توقعات شقيق الرئيس خاتمي تكتسب شكلها الواضح حين نلقي نظرة على قائمة أولئك الذين لم يمنحوا أهلية الترشيح.
هل نستغرب حين نرى اسم النائب حسين لقمانيان في قائمة رفض الأهلية؟
أتذكر جيداً جرأته البالغة حيال مرشد الثورة ذاته يوماً ما، وهذا ما يتذكره جنتي والمرشد بشكل أفضل. قبل نحو عامين تمادت سلطة القضاء في حظر صحافة اليسار، حتى أغلقت 90 بالمائة منها، بما فيها جميع الصحف الكبرى الناشطة. صحيفة طوس وسلام وعصر آزادكان وجامعه...الخ. معظم هذه الصحف تابعة للاحزاب التي هي جزء من جبهة 2 خرداد المهيمنة على البرلمان، ولذلك كان من الطبيعي ان تدفع صرخات الصحافيين المعتقلين وأولئك الذين باتوا عاطلين عن العمل، أصدقاءهم في البرلمان الى اقتراح تعديل على قانون الصحافة. ولم يكد كروبي يبدأ في قراءة المقترح حتى رن جرس الهاتف بجانبه وكان الخامنئي مرشد الثورة على الخط: "عليك ان تغلق هذا الملف نهائياً".
كروبي (الاصلاحي المعتدل الذي يشفق عليه جنتي من الراديكاليين) قال للجميع يومذاك ان الولي الفقيه استخدم صلاحياته ومنع البرلمان من التصويت على مشروع التعديل. كانت صدمة كبيرة للنواب لأنها المرة الاولى التي يجري فيها تدخل سريع على هذا النحو في عمل البرلمان وأمام وسائل الإعلام وفي جلسة علنية.
حين اكتفى الاصلاحيون بالاحتجاج الصامت، قام حسين لقمانيان ممثل مقاطعة همدان (الاقلية التركية) وصرخ في وجه كروبي: لا يمكن لأي سلطة ان تمنع ممثلي الشعب المنتخبين من ممارسة دورهم التشريعي، ألا يكفي اننا نعلم سلفاً بأن مجلس الصيانة والشيخ جنتي لن يصادق أبداً على التعديل القانوني؟ لن يمر أي قرار يشرعه البرلمان إلا بمصادقة مجلس الصيانة المعين من قبل المرشد والشيخ جنتي بشكل خاص.
كان ذلك ترجمة للاعتراض المتزايد على صلاحيات المرشد الواسعة، لكن لقمانيان تعرض الى هجمات شديدة وجرى تعنيفه وكان من المفترض ان يظل في المعتقل طويلاً دون الحديث عن حصانة البرلمان، لكن المحافظين أخذوا يهدئون الموقف. لم يتعرض لقمانيان لعقوبة قاسية لكنه لم يمنح أهلية الترشيح هذه المرة.
كنت أتجول ربيع عام 2000 غير آبه بما يجري في ايران، فقد تلقيت إخطاراً بترك "البانسيون" الرديء الذي أقيم فيه مع "قطيع من العزاب المفلسين"، وعلي ان اجد قبواً بديلاً أواصل فيه فضيحة المنفى. لكن الناس في الشارع بدأت تتحرك بطريقة غريبة، سألت أحدهم ماذا يجري بحق السماء، فأجابني "مردي لخت در تلويزيون" هنالك شخص عارٍ يعرض التلفزيون صوراً له!
كان هنالك مؤتمر في برلين يتحدث عن تحديات الديمقراطية الواعدة في ايران، فاقتحمه مغتربون ايرانيون وتجردوا من ملابسهم وسط الحضور الحاشد ليعبروا عن احتجاجهم العميق حيال القيود المفروضة في بلادهم على الحريات الشخصية... خاصة منع الستلايت (جهاز استقبال البث الفضائي) ومصادرته وفرض غرامة على المشاهدين، وحملات الشرطة المكثفة لجمعه في طهران وقم وسواهما. كنت حينها أعد مغامراً كبيراً لأنني اتحدث عن جهاز بدائي للبث أخفيته بحرص في زاوية مهملة، وأنا أغامر كي اتمكن وحسب من كسر سياق الغربة ومشاهدة ما يمكن من برامج الفضائية العراقية للاستماع الى أغاني المطرب العراقي الراحل (رياض عبد الزهرة دويتش) او رياض احمد وفق اسمه الفني، وهو يتغنى بالماء الرافديني (رياض من قضاء شط العرب – التنومة - تربطه صلة قربى حميمة مع والدتي)، او لأشاهد صوراً من بغداد التي لم أعرفها جيداً ولم أذهب لها إلا لزيارة سجين في أبي غريب وزيارة والدتي الراقدة في مدينة الطب، او تجديد عهد بلقطات يبثها التلفزيون العراقي لكورنيش العشار في البصرة الذي بدأت مع نسيمه البحري المحبب يوم كنت مراهقاً، أستنشق التبغ وأخرق ممنوعات أبي الكثيرة.
عرض التلفزيون الايراني مشاهد التعري. قال المعلق: "هذا هو المؤتمر الذي يشارك فيه الاصلاحيون لتشويه صورة الثورة". كان ذلك طبيعياً من مؤسسة الاذاعة والتلفزة التي ترتبط بالمرشد مباشرة، لكن ما لفت النظر هو اعتقال عدد من المشاركين الاصلاحيين في المؤتمر في مطار طهران.
اعتقلوا مهر انغيز كار الكاتبة والصحفية زميلة شيرين عبادي الحائزة على نوبل هذا العام، وكانت انغيز كار رائدة للحركة النسوية في ايران تبلغ السبعين من العمر، ولا تزال حتى اليوم في المعتقل تمضي فترة سجن طويلة. لم يبث التلفزيون الايراني سوى مشاهد التعري الاحتجاجية. لم يعرض التلفزيون لقطات رائعة تجلى فيها شكل متميز للعلمانية والليبرالية. حصلت على فيلم مسجل لوقائع المؤتمر هربه تجار الممنوعات الى ايران. كانت مهر انغيز كار تتحدث عن طموحها بنظام حديث علماني يتعامل بحياد مع جميع الاتجاهات في ايران. قاطعتها فيمينيست ايرانية مغتربة: لو كنت تنادين بالليبرالية فعليك ان تخلعي حجابك هذا! ردت عليها انغيز كار بصوت حازم يحكي شخصيتها المميزة: الليبرالية التي اعرفها تعني ان في وسعي ان أرتدي الحجاب او أخلعه وفق قناعتي الخاصة، وليس الدين أمراً معيباً في المناخ الليبرالي.
لو كنت مكان آية الله شاهرودي رئيس القضاء الاعلى، لوجهت شكراً لهذه السيدة، وهي تعكس صورة معاصرة للمرأة وتلمع شكل المجتمع الايراني المحافظ، لكن للقضاء حساباته الخاصة هو الآخر.
اعتقلوا كثيرين يومذاك، وقدموهم للمحاكمة. كانت بينهم جميلة كديور زوجة عطاء الله مهاجراني الوزير السابق للثقافة، لكن المحكمة برأت كديور التي حملت رضيعها ووقفت امام الحاكم لتدافع عن رفاقها وعن الصحفي المشاغب (أكبر غنجي). كديور هي الأخرى ناشطة نسوية، كنت قد توليت تعريب كتابها "المرأة: رؤية من وراء جدار" وصدر عام 2001 عن دار الفكر. وفي انتخابات البرلمان عام 1999 كانت جميلة أكثر من حصل على اصوات الناخبين في طهران، لمساندتها حقوق المرأة، ومن المؤكد ان الطهرانيين تعاطفوا كذلك معها لكونها شقيقة الشيخ محسن كديور الذي مكث في المعتقل عامين بعد صدور كتابه عن ولاية الفقيه (حكومت ولائي) وهو أهم كتاب اطلعت عليه حتى الآن من الاعمال التي تناقش الموضوع فقهياً وتاريخياً. صحيح ان جميلة لم ترافق انغيز كار الى المعتقل لكن اسمها كان في قائمة من رفضت اهليتهم هذه المرة.
كل الناشطات النسويات في البرلمان تعرضن الى قدر جميلة ورفضت أهليتهن: إلهة كولائي الطاعنة في السن والتي لا زالت تناضل من اجل قانون للاحوال الشخصية يضع حداً للتمييز بين الجنسين، فاطمة حقيقت جو المعروفة بجرأتها.
من خارج البرلمان رفضوا أهلية الثائرة القديمة أعظم طالقاني، التي تنتقد علنياً الثراء الفاحش لأسرة هاشمي رفسنجاني وكارتله العملاق المهيمن على اقتصاد ايران (الحكومي).
كفر وشمبانزي ومعتزلي جديد من البصرة
رفضوا كذلك أهلية زهرة آغاجري شقيقة هاشم آغاجري القابع في المعتقل بتهمة الارتداد والذي ينتظر تنفيذ عقوبة الجلد والنفي والمنع من مزاولة تدريس التاريخ في الجامعة. كان هاشم يلقي محاضرة في همدان لتكريم ذكرى الراحل المفكر علي شريعتي، متحدثاً عن ظاهرة التقليد الديني ومشبهاً أولئك الذين يحملون قناعات خطيرة تقليداً لسلالاتهم وزعماء الطوائف، بالشمبانزي. أصدر القضاء حكماً بالإعدام على هاشم لأنه ارتد "وشتم النبي وآل البيت".
استفزني ذلك يومها، فعدت الى كتبي التراثية القديمة، أبحث مسألة "المرتد" التي تعلمتها في حلقات الدرس يوم كنت "أقرأ الفقه على المشايخ في قم منتصف التسعينات".
رحت أطبق قاعدة ((كلامية)) دونها المعتزلة قبل ألف عام "من القبيح التكليف بغير المقدور" وتحدثت عن حكم إعدام المرتد (المجمع عليه من فقهاء الملة) وأنه حكم فقهي ((قبيح)) لأنه يستلزم "تكليفاً بغير المقدور". نشرت ما كتبت في إيلاف قبل 12 شهراً "دفاعاً عن الحلاج وأبي زيد وآغاجري...". وكانت إيلاف يومها متنفسي الصحفي الوحيد تقريباً، يتهمها البعض بأنها آخر صرعات عثمان العمير، ويتهمها غيرهم بأنها أصبحت عراقية اكثر مما ينبغي بسبب كارتل عراقي يتزعمه عبد القادر الجنابي، ويصيح الأخير: "العراقيون قبائل لغوية...". لكن ايلاف كانت بدأت تستقطب قراءً كثراً في ايران وشجعتني على الكتابة الغزيرة. بعد ذلك لم أجد أفضل من ذلك النص لأجعله مقدمة لكتابي الأول الذي يحلو لأصدقائي الجدد في بغداد اليوم، أن يصفوه بأنه "من بقايا مرحلة الإيمان!". قلت لهم: ستظل بغداد تتهمنى الى الأبد بأنني معتزلي جديد من البصرة.
لا أدري كيف يكون قدر الأشقاء أحياناً، حاضناً لقدر شقيقاتهم بهذه الطريقة. تهمة الضلال الفكري لمحسن كديور وهاشم آغاجري، تتحول الى تهمة ضلال سياسي لجميلة وزهرة!
هذا ما تحدث عنه جنتي قبل يومين في تصريحه لصحيفة ((رسالت)) اليمينية المتشددة، مؤكداً تصريحاته السابقة، بأن عدداً ممن رفضت أهليتهم، هم من الضالين غير الملتزمين عملياً بالاسلام. الطريف ان الشيخ جنتي أكد لرسالت، ان ذلك لا يعني ان هؤلاء خرجوا من ربقة الاسلام.
أحسب ان جنتي يلوح لسلطة القضاء المتوثبة، بأن رفض أهلية زهرة وجميلة – على سبيل المثال – لن يؤدي الى تقديمهما للمحاكمة بتهمة الارتداد. انه مصير هاشم، مع التخفيف (الاعدام السياسي).
يوم تحدث الفجر: بازرغان تحت سلم دارنا
كان من بين مرفوضي الاهلية، مصطفى طاهري نجف آبادي، ويبدو انه نجل آية الله طاهري نجف آبادي إمام الجمعة السابق في اصفهان والمنحدر من مدينة آية الله منتظري (نجف آباد) الذي رفعت عنه الاقامة الجبرية قبل بضعة اشهر وحسب بعد تفاقم مرضه وتقدمه في السن، وبعد ان اصبح ينام 16 ساعة في اليوم!
وجه آية الله طاهري رسالة جريئة للغاية الى مرشد الثورة في العام الماضي، مطالباً إياه بوضع حد لفساد الاكليروس او طبقة رجال الدين ومستقيلاً من منصبه في إمامة الجمعة، تلك الرسالة التي قارنت بين فساد بطانة الشاه وفساد رجال الدين المقربين من الاتجاه المحافظ المهيمن على السلطة الحقيقية في ايران.
رفضت كذلك أهلية الدكتور ابراهيم يزدي رئيس حركة الحرية (نهضت ازادي) المحظورة، وأبو الفضل بازرغان نجل الراحل الدكتور مهدي بازرغان رئيس الحكومة المؤقتة التي تشكلت بعد الثورة.
كان بازرغان أكثر رجال الثورة جرأة في التعامل مع اليمين الثوري، وقد دفع ثمن ذلك غالياً هو وحركته التي تنشط منذ أواسط الخمسينات يوم كانت تعد الجناح الاسلامي في الجبهة الوطنية للدكتور مصدق، الأمر الذي منحه مشروعية ثورية أكثر من اولئك الذين لم يسمع صوتهم إلا أواسط الستينات والسبعينات بعد ظهور الخميني على مسرح السياسة الايرانية.
يتذكر الايرانيون اليوم بمرارة، الرسالة الجريئة التي وجهها بازرغان الى الخميني عام 1982 طالباً فيها من الزعيم الكبير، ان يتخذ قراراً تاريخياً بالموافقة على وقف اطلاق النار، بعد ان وافق النظام العراقي على ذلك عهدئذ. كان بإمكان هذا المقترح ان يضع حداً للنزيف العراقي الإيراني المتواصل. وكان يمكن لرسالة بازرغان ان تجنبني الاختباء تحت سلم دارنا في البصرة كلما تحدث صمت الفجر، بلغة المدافع الايرانية، وذكرني بزملائي الاطفال الذين رأيتهم يقتلون بعيد استلامنا للدرجات السنوية في الصف الثالث الابتدائي، منتصف الثمانينات. كم من أطفال العراق وإيران ماتوا يومئذ وهم يحملون بفرح غامر علامات تفوقهم يا ترى؟ هل كان بازرغان يا ترى يختبئ تحت سلم داره حين كتب رسالته الشهيرة؟
لكن بازرغان تلقى لعنات الجمهور الثوري الصاخب وكانت لدى الخميني حساباته الخاصة ومبلغ كبير يطالب به كتعويض عن خسائر الحرب (400 مليار دولار).
ليس من قبيل الصدفة أن أقرأ يوم 10/1 الماضي في صحيفة شرق، ان ايران لا تزال تطالب بحقل نفطي عراقي تعويضاً عن خسائر الحرب! وأن هادي نجاد المسؤول الكبير في وزارة النفط الايراني، يتفاوض مع جيرمي سكوت سفير بريطانيا في جنوب العراق حالياً، حول ذلك. كان المسؤول الايراني يعزز مطالبه بتصريح للسيد عبد العزيز الحكيم الرئيس الدوري الاسبق لمجلس الحكم الانتقالي في العراق، قال فيه ان من حق ايران ان تطالب بتعويضات الحرب، حسب وكالات الانباء. ليس من المصادفة كذلك، ان أعثر على الخبر وأترجمه لأقحامه مع محرر الصفحة الاولى من جريدة المدى البغدادية، في مانشيت رئيسي ضم خبراً آخر حول تنازل العديد من دول الخليج عن قسم كبير من ديونها بعد زيارة جيمس بيكر قبل اسبوعين!
استمرت الحرب ستة اعوام أخرى بعد رسالة بازرغان، وقد تذكر الخميني بالتأكيد مقترح بازرغان بألم يوم "تجرع السم- على حد تعبيره الشهير" ووافق مجبراً على وضع حد للحرب. كيف شعر الإمام الخميني حينها بشماتة بازرغان؟
قبل نحو عامين استيقظنا صباحاً لنقرأ في الصحف الايرانية نبأ اعتقال عشرات من اعضاء حركة الحرية (ملي مذهبي) على رأسهم عزت الله سحابي وإبراهيم بيمان، بتهمة تدبير محاولة انقلاب! مكث بيمان شهوراً طويلة في المعتقل الانفرادي، وحين زارته أسرته للمرة الاولى كانت تتحدث عن سقوط نظام طالبان والجيش الامريكي الموجود في كابل، ففغر فاه من الدهشة: أي جيش وأي امريكا؟ لم يكن يعلم البروفسور في الهندسة، وهو بين جدران المعتقل بما حدث في نيويورك يوم 9/11/2001 ولا بما سواه، وهو المصاب بالشلل النصفي والعمى الكامل الذي منعه من الاستمرار في إلقاء دروس تفسير القرآن، وهو تقليد درج عليه زعماء حركة الحرية منذ مهدي بازرغان وعلي شريعتي المقرب منهم.
لهذا ولأشياء كثيرة أخرى، رفضت أهلية ابو الفضل بارزغان، والى جانبه النائب بهزاد نبوي ومحسن ميردامادي رئيس تحرير صحيفة نوروز التي اغلقها القضاء قبل عام.
شعر عربي وأراكيل قاجارية
رفض جنتي كذلك أهلية جاسم شديد زاده النائب العربي الذي يطالب بحقوق قومية وثقافية للعرب في الجنوب. قال لي صديق عربي ايراني يوماً: لم يكن يسمح لنا بإقامة امسية شعرية او اصدار صحيفة عربية، لكن خاتمي يوم جاء انتزع لنا هذا الحق بعد ان زار المناطق العربية وقلنا له ان العرب صوتوا لصالحك لأنك رفعت شعار حرية التعبير عن الرأي. لا زالت حقوق كثيرة قيد الدرس، او هكذا يفترض.
حين دخلت النقطة الحدودية الايرانية قادماً من بغداد يوم الخميس الماضي، أقلني سائق كردي ماهر في التعامل مع الطرق الجبلية، الى مدينة كرمانشاه، وجلست هناك لتناول العشاء مع أكراد آخرين، كما واصلت سفري الى مدينة قم مع سائق كردي آخر يتحدث بألم عن طموحاتهم في حقوق ثقافية وسياسية معقولة، ظلت وعوداً منذ مجيء الثورة حتى اليوم.
راح ترشيح جاسم شديد زاده العربي، ضحية تمثيله لطموحات قبائل العرب في المحمرة (خرمشهر) وعبادان وكوت عبد الله ومعشور.
وظل جنتي وفياً لثورته المركزية يكافئ ممثلي الأقليات وفق حجم طموحاتهم تلك.
لنتساءل ثانية: هل كان محمد رضا خاتمي اذن بحاجة الى التذاكي كي يتنبأ بأزمة الترشيحات هذه: "ان سيناريو الإقصاء كان متوقعاً".
ربما يعود جنتي في أي لحظة عن قراره، وربما تراجع النواب المستقيلون عن اندفاعهم وقبلوا بأقل مما يطلبون كما هي العادة، في ظل الحركة اللاهثة للوسطاء التي تجري حالياً كما أخبرني مصدر مقرب من وزير الثقافة تحدثت معه عن الثقافة العراقية في عصر الحرية، مساء أمس.
لكن المشكلة تبقى قائمة. "لم يبق هنالك وقت لإعداد القوائم". قالها زعماء حركة "مشاركت" الاصلاحية.
ربما قرر المحافظون تأجيل الانتخابات ليتيحوا حلحلة مرضية للأزمة. ولكن ماذا بعد؟
اليمين القوي يشفق على اليسار الضعيف ويمد يد العون لخاتمي بتخليصه من أصدقائه الراديكاليين!
هذه آخر مقاربة اطلعت عليها خلال اجازة العيد التي أمضيها في ايران، فيما يتصل بالأزمة السياسية الراهنة في "الجمهورية الاسلامية".
صديقي الإيراني جهانبخش يضحك بصوت عالٍ وهو يدخن الأركيلة القاجارية بهدوء وينظر الى ساعته بعناية حذراً من حلول منتصف الليل حيث يلزم الشرطة مرتادي المقاهي القليلة هذه، بترك أراكيلهم تنفث لوحدها التبغ المصري المحبب... وأنا لا زلت أسأله عن خلفية التفسير هذا.
حهانبخش يأخذ بيدي ويقوم وهو يهمس: ماذا بعد؟
حل منتصف الليل، وظلت الاراكيل القاجارية لوحدها، لكن طريق الشفقة سيظل مسدوداً.
لنترك الحديث عن مفارقات دستور الانتخابات الايرانية الى حلقة أخرى. فلا زلت أتشوق الى استطلاع المزيد من وجهات النظر قبل استكمال الحديث، مصراً على اكتشاف "منطق الشفقة" الذي يحدد درجات الحرارة هنا، فربما اطلعت في زيارتي القصيرة هذه، على ما لم أره خلال 12 عاماً من الإقامة القسرية في بلاد الصديق جهانبخش