دأبت في السنوات الأخيرة أن أكتب ما تيسر في ذكرى الثورة العملاقة التي دارت أحداثها على أرض كربلاء العراق قبل ما يقرب من 14 قرنا , كتبت عن سرمدية تلك الثورة , وقبل عامين كتبت (ولوا وجوهكم شطر كربلاء) وفي العام الماضي كان المقال من وحي الأحداث حيث طبول الحرب على العراق تصك الاسماع فكان تحت عنوان (ومثلي لا يُبايع مثله : سنة الحسين المعارض) ملخصها أن الحسيني لا يُبايع ولا يركن الى الطاغوت المتمثل في عصرنا بصدام وأمريكا وكل أنواع الطغيان . وما ان اقتربت ذكرى الإباء هذا العام وأنا أحدثُ نفسي : ماذا عساني أن أكتب ؟ عن مقاومة الاحتلال من وحي كربلاء , وأعداء الحسين شوهوا وجه المقاومة وأفرغوها من محتواها وهم يقتلون أبناء العراق بأحزمتهم الناسفة !؟ . أم حول التخلي عن المشاركة السياسية والدخول في صراعها السلمي كأحد دروس كربلاء ؟ وأنا أجد أعداء الحسين تكالبوا وتحالفوا ورصوا الصفوف من أجل أن لا يكون الاسلام مصدرا أساسيا من مصادر التشريع في عراق الحسين ! .. أم أكتب عن وجوب آخذ الثأر من أعداء الحسين وأعداء العراقيين من زمرة الاجرام البعثي واجتثاثهم وجذورهم من أرض العراق ؟ وأنا أرى دعاة المعارضة بالأمس يفتحون أبواب مكاتبهم لرجال المخابرات ورفاق البعث الذين حاربوا الحسين لثلاث عقود مضت ! .. ماذا عساني أن أكتب عن عراق الحسين وحسين العراق وما قيمة القلم أمام شموخ كربلاء , فكربلاء جذوة عطاء عرضها السموات والأرض لا يختزلها لطم ولا يُعبر عنها تطبير الرؤوس ولا يمثلها عويل وبكاء ولا يفيها جزء من حقها آلاف الخطباء . كربلاء مدرسة الاسلام ومدرسة الانسان التي لا تنتهي دروسها ولا يقف فيضها عند حد .

أبت كربلاء هذا العام الا أن تكون درسا للعراقيين يمتد عبر 14 قرنا من الزمان ليتجسد في واقعهم الذي تحيط به الأخطار من كل حدب وصوب , وأبت كربلاء الا أن تجر الأقلام – كل الاقلام – لينهمر مدادها من وحي كربلاء كما انهمر في عاشوراء 2004 ! .. واختلفت الأقلام والآراء باختلاف الفكر والرؤية فبين نائح باك يندب الشهداء وبين غارق في بحر من الذهول والانفعال , والخطب عظيم , الى من يدعو الى استئصال هذا الفكر التكفيري المتحجر من أرض العراق الطاهرة .. واختلفت مؤشرات بوصلة الاصابع فمنها من أشار وبقوة الى الموساد وأمريكا – وهو ليس ببعيد – ومنهم من وضعها في سلة الزرقاوي بناءً على رسالة منسوبة له – وهو ليس ببعيد كذلك – ومنهم من أشار الى مجلس الحكم ووزارة الداخلية ومسئول الملف الأمني في مجلس الحكم – وهو رأي لا يبتعد كثيرا عن الحقيقة - .. وقد فاتنا جميعا أن كربلاء بركة والحسين عطاء ولولا دماء الحسين وأهله وصحبه في كربلاء لما ثار مظلوم بوجه مستبد , ولولا تلك الدماء يوم الطف لساد الخنوع في عالمنا . ولولاها لكنا عبيد الحكام على سنة معاوية ويزيد , ولولاها لرفرفت راية (هيهات منا العزة) ! .

إنها عاشوراء , الرمز المقدس لكل ماهو حق وجميل , الوعاء المحكم لكل أفكار الخير والصلاح والرفض لكل أفكار الشر والخراب . أينما تولي وجهك فثمة كربلاء وأينما تلقي بصرك فثمة مصباح الحسين يُنير الدروب الحالكة المعتمة .

في عاشوراء القرن الأول للهجرة يهزك تاريخها من الأعماق حتى يحار المرء في دقة رسم الثورة الحسينية التي شكلتها ريشة رسامها الذي أبدع الصنع ! .. لماذا هذا الاصرار من الحسين العظيم عليه السلام في إلحاق زهير بن القين للصف الحسيني ؟ وابن لقين (سني) عثماني الهوى وطالما جهد نفسه بالابتعاد عن الركب الحسيني في الطريق الى كربلاء , الا أن الحسين أبى الا الالحاح وقد بخع نفسه في كسب زهير بن القين الى صفه وقد حصل , حتى نصبه قائد ميمنته ساعة المعركة ! لماذا أصر الحسين وهو ابن علي بن أبي طالب على أن يكون زهير بين أنصاره وزهير من أتباع عثمان ؟ مع أن التاريخ لا ينقل لنا هذا الاصرار من الحسين في حالات كثيرة أخرى وكان يكتفي بالقاء الحجة ! .. أزعم أن الحسين عليه السلام كان يرى في التحاق زهير الى صفه بُعدا أصرَّ أن يضفيه على ثورته ليقطع الطريق على من يقول ان الثورة كانت صراعا هاشميا – أمويا أو شيعيا – سنيا . وهذا البُعد الذي أراده أبو الأحرار بُعداً ينطلق من رحم الاصلاح والتغيير الذي تحمله ثورته وهو بُعد لا يتوقف عنده الزمان والمكان .

لم تنحصر لوحة كربلاء في زهير (العثماني) وقد تجاوزته الى التركي الذي سقط شهيداً بين يديه واسمه واضح التركي ! .. واذا كان بالإمكان تخريج اشتراك زهير وواضح على نحو ما , فلا أجد في اختراق اللوحة الحسينية يوم الطف في خيط الدم المسيحي الا تعبيرا صارخا متعمداً من رسام اللوحة المبدع على تنوعها المذهبي والعرقي والديني , فهذا زهير على مذهب عثمان وهذا واضح – تركمانيا – وذاك وهب مسيحيا !! .. لله درك يا رسام لوحة عاشوراء ! ربما كنت تبحث عن كردي لينضم الى عناصر اللوحة !.. ولا أدري هل هي محض مصادفة أن تكون كربلاء وسط العراق المتنوع عرقا ودينا ومذهبا محط ركاب الحسين أم هي درس من دروس كربلاء الممتدة عبر العصور لأهل العراق ؟ .

وفي عاشوراء القرن الرابع عشر تسيل الدماء مجددا في كربلاء على نفس البقعة وفي ظل ظروف التنوع الذي يعيشه العراق طوال تاريخه ويُراد له أن يكون مصدر فرقة وتمزق وفتنة داخلية حتى تتوارى الأنظار عن العدو الحقيقي لهذه الأمة وحتى لا تعود سيادة هذا البلد المحتل .. في عاشوراء اليوم قتلوا الحسين في قبره ليقتلوا الاصلاح ويقتلوا التنوع والتعايش كما فعلها أجدادهم في القرن الأول .. في عاشوراء اليوم هاجموا الحسين بأحزمتهم الناسفة ليقتلوا العراق وشعب العراق وهدفهم أن يتمرغ شعب الحسين في وحل وأتون فتنة طائفية ليهنأ الأشرار ويحققوا مآربهم على أشلاء شعب عاش التنوع أخوة والاختلاف وداً والوطن سقفا واحدا . فهل نعي نحن العراقيين جميعا الدرس من عاشوراء الأمس واليوم ونكون كأنصار الحسين رحماء بيننا رغم تنوعنا , أشداء على أعداء العراق رغم توافقهم في الهدف ؟ .

لقد ظل الجناة الطريق وأخطئوا التخطيط وما علموا أن الحسين مشروع وحدة وأن الحسين ولوحة تنوع خلابة .. وقد ظن الجناة انهيار صرح التآخي العراقي مع انفجار أحزمتهم اللئيمة وفاتهم أن أهداف الحسين حاضرة في ضمائر وعقول أتباعه , واذا كان فينا ثمة غافل أو متغافل فقد أيقظه الجناة – يا لغبائهم – وقد قيل (رُبَّ ضارة نافعة) .

آمل أن لا اُتَّهم بالمجاملاتية والمثالية بقدر ماهي دعوة كي يكون العراقيون كل العراقيين بمستوى التحدي والخطر الداهم , وفي ذات الوقت أن يأخذ كل ذي حق حقه والعراق كل العراق حقنا وحق الحسين وأنصار الحسين وليس أمامنا سوى التمسك بمباديء الحسين ووالله لن يهنأ الاشرار – كل الاشرار – في العراق ما دام الله سبحانه قد اختار أرض العراق تربة خصبة لدم أبي الأحرار الطاهر .