يبدو أن الزلزال العراقي لم يترك واقعاَ إلا وهزه، ومع تداعيات الهزات الإرتدادية التي خلفها هذا الزلزال، فقد بدأ يبرز إلى السطح وسط الركام المتجمع نبت لا ندري ما نطلق عليه، لأنه نبت لم تخضعه أيادي علماء النبات للفحص، ولم يجربه أهل التجربة.
وفي الصورة الضبابية بدأت تتراءى أكثر وأكثر صورة تقترب من السراب أكثر من الحقيقة. ومن يرى السراب سراباَ قد يكتشف ماءً أو من يرى الماء قد يكتشف سراباً، كل من موقع إنطلاقه، ومن موقع طلبه. إنها صورة سريالية "جميلة" على عمق مأساتها الألفية. وكي لا أنجر إلى التاريخ، الذي أصبح تاريخاَ، سأحاول تثبيت نفسي في الحاضر "التاريخ" أيضاَ.
الواقع الذي أفرزه الزلزال العراقي العنيف والمستمر لعقود من الزمن، هو واقع تتشابك فيه الأمور بحيث لا نستطيع بسهولة أن نفكك ونحلل معطياتها المتداخلة بعضها ببعض. وأصبح هذا الواقع سريالياً بحق، لا تستطيع أن تفصل فيه الحق من الباطل، والبياض من السواد، والحقيقة من الكذب، والعدو من الصديق. إنها فوضى إثبات الذات الذي دمر وإستمر به الدمار إلى أن ينسحق. كيف ؟
وفيما نستمر نحن العراقيون نتجادل، وسنستمر نتجادل، في عمالة هذا للأجنبي، وبيع ذاك نفسه للمحتل، وعن هوية هذا القادم من المجهول، أو عن أصالة ذاك الذاهب إلى الوضوح، أقول فيما نستمر في هذا النقاش السفسطائي الذي لا طائل منه، ننسى، أو ربما نتناسى- في اللاشعور- الهائم تعريفنا لهذا الوطن، البلد، الأرض، الهوية، الجنسية، القطر، سمه ما شئت، نتناسى أن نضع تعريفاً له، يجمعنا كلنا رغم تناقضاتنا، إسمه العراق. فالعراق كوطن يحمل مليون تعريف اليوم.
فهناك من يرى العراق عراقاًً للبعثيين الذين شكلوا بنية العراق ووضعه خلال ما يزيد على الثلاثين سنة.
وهناك من يرى العراق عراقاًَ للشيعة، الناس الذين إضطهدوا وقمعوا بقسوة لا مثيل لها.
وهناك من يرى العراق عراقاً للسنة، الناس الذين مارسوا السلطة منذ نشأة الدولة في العراق.
وهناك من يرى العراق عراق الدولة الإسلامية، خلافتية، أو ولايتفقهية، أو وهابية، أو مقتدائية.
وهناك من يرى العراق عراق العلمانية والديمقراطية.
عراق القومية العربية، والكردية، والتركية.
أستطيع أن أستمر في سرد عشرات من "العراق".
وفي خضم هذه النظرات التجزيئية والمهيمنة في آن واحد، يسحق الوطن "العراق" ويتحول إلى شيئ ثانوي لا أهمية له، في صعود متعاظم للذات، أياَ كانت، إسلاموية، أو قومية، أو حزبية، أو طائفية. هذا الصعود هو سر البلاء. وهو الذي سيؤدي بالعراق إلى مهاو لن يحسد عليها العراقيون، وخاصة هؤلاء الذين تعرضوا للإقصاء والتهميش، والإستئصال والإبادة. العراقي اليوم لا يتحدث كثيراَ عن وطن به دولة، تمارس سلطة تحفظ الأمن، وتوفر الطعام " أساسا وجود أي مجتمع متحضر أو حضارة" واصبح يفكر أكثر، مع إستشراء ثقافة العنف، والعنف المرضي في كافة ميادين الحياة، في كيفية تحقيق طموحه الخاص به، عراقه هو، الذي يريده هو، رغماً على أنف كل من يشترك معه في هذا العراق. هكذا كان العراق دوماً، إذ أن التسامح والطيبة التي ميزت أهل أرض السواد،إختلطت دوماً مع قسوة لا مثيل لها، وتسلط لا مثيل له.
إننا بحاجة إلى إنشاء طريق ثالث، طريق ينأى بنفسه عن الإحتلال، ولكنه لا يعطي السلطة له بالإنعزال الكامل، وبنفس الوقت ينأى بنفسه عن حركات وطوائف ومرجعيات تتحرك بأجندات- أحسبها- مشبوهة، لن تقدم أمناً ولا غذاءً ولا عدالة لشعبنا ووطننا. إننا بحاجة أن نحرك النبض الوطني العراقي، الذي لا يتناقض مع الدين الإسلامي الذي هو منبع قيم وتاريخ العراق، ولكن في نفس الوقت يؤصل وطنية العراقي بعيداً عن مزايدات الدولة الإسلامية العالمية، التضحيات والشعارات.
هذا النبض العراقي يجب أن يتحرك بحس عربي ايضاً، يأخذ بالإعتبار أغلبية الشعب العراقي الإثنية، مع ملاحظة الإبتعاد عن مزايدات القومية العربية المقبورة، وشعارات التضحية للقضايا التي ليس في مصلحة "الوطن العراقي" التدخل بها الآن. نبض يتحرك بروح التسامح وتقبل الآخر والتضامن معه إذا أثبت نزاهة وإخلاصاً. هذا النبض يجب أن يحرك الدم في إحساس الشيعة بالذات بأنهم أهل للحكم، وأنهم يستطيعون أن يديروا الدولة والنظام، وأن يتسلموا ملفات القضاء والأمن والجيش والإقتصاد والإعلام، شأنهم شأن كل العراقيين الذين يشاركونهم هذا الوطن. بعيداً عن التخوين والإتهام بالعمالة والكفر والفسق والإرهاب والإستئصال.
إننا بحاجة أن نحس نبض الإنسان العراقي المتعب جسدياً ونفسياً من هموم الزمن، وعاتيات الدهر. هذا الشعب يستحق إستراحة محارب-إذا إعتبرناه محارباً- يجدد فيها بعض خلاياه. وهذا الشعب شأنه كل الشعوب يريد أن يمارس حياته اليومية بشكل طبيعي وبحرية دون أن تدخل عليه قوى محلية أو إقليمية أو دولية فتنغص عليه أمنه وطعامه. إننا نخاف على أهلنا في العراق من تأثير المحتل وغيره. ولكن ألا تتفقون معي أن النتيجة واحدة. إذ أننا إذا لم ننجح في تأصيل هذا الطريق الثالث، فإن النتيجة واحدة، سواء أبقي المحتل الأميركي وغيره، أم إذا إنتصر هذا الفصيل أو ذاك. لأن النتيجة هي التشرذم، والسرقة، والعبودية، والخراب. وبالنسبة لي العبودية عبودية سواء كانت للأميركي، أو للبعثي، أو للمقتدائي، أو للعلماني أو أياً كان. المهم هو بناء نظام يفرض هيبة الدولة وإحترامها عند الناس. لأن الذي حدث هو إنهيار دولة ونظام وليس نظام فقط. وعدم وجود دولة يعني وجود هذا العراق الذي يشد بكل الإتجاهات مع دوامة عنف وفوضى.
أما أن نتعلم كيف نقتنص مصالحنا ونبني بها وطننا، فهي مسألة يبدو أننا كشيعة عراقيين لم نحسن بعد إدارتها بشكل جيد، وأصبحنا أكثر إهتماماً بالعلم، والسارية، ونوع القماش، وأين صنع القماش. أما غيرنا فقد إقتنص فرصه، وسيقتنصها أيضاَ.
مشكلتنا خطابنا المؤدلج أكثر من اللازم أحياناَ، والذي يغطيه صراخ يمنعنا من التفكير بهدوء لحل قضايانا.