الإستحقار الذاتي
عندما تمشي في شارع الكويت في مدينة البصرة التاريخية ذات الأغلبية الشيعية تلمح أناساً وقد تجمهروا حول باعة الأقراص المدمجة ممن إحتلوا الرصيف مقابل محلات بيع الأجهزة الكهربائية. وتصدم عندما ترى التناقضات في المعروض دون أن تلمس شيئاً من الضيق أو التبرم من قبل هذا البائع أو المنافس الذي يقابله.
يعرض أحدهما فيديو كليب للمقتدائيين، يشيد "بولدهم" مقتدى مقتدى مقتدى، ويستعرض إقامة الصلاة في مسجد الكوفة، ملقياً خطبته مهتزاً، تتخللها أهازيج شعرية يلقيها معقّل يقف وراءه. وفي المقابل يعرض الآخر مشاهد يعتبرها البعض فكاهية من مسلسل أنتجته قناة الإعلامي البعثي-السني البزاز، لشخصية هزلية من الجنوب العراقي، ترسم شخصيته التخلف والإستهزاء باللهجة التي ينتمي إليها وربما من ورائها الإستهزاء بالطائفة التي ينتمي إليها كذلك. كم هو جميل وسريالي هذا المشهد، إنه يختزل الأوراق الشيعية المبعثرة، التائهة، وربما المحترقة. لم أر أحداً من هؤلاء الشيعة يتساءل لماذا لم يتخذ منتج هذا المسلسل التافه شخصية من الرمادي أو الفلوجة أو تكريت أو الموصل، أو حتى كردستان محلاً للإستهزاء، وجعلها رمزاً للتخلف. اللامبالاة الشيعية لا تقف عند حد. فهي لا تكترث كثيراً بالقضايا الهامة والمصيرية، وتهتم كثيراً بالهامش، والقشور.
نخاف ولكن بقوة
قال لي المسؤول الكبير جداً في المجلس، إننا أقوياء، فنحن أقوى فصيل سياسي شيعي- عراقي في العراق، نتمتع بالشعبية الكافية، ونحن الرافعون للواء المرجعية، ونتمتع بوجود قوي في الدولة العراقية. جاهدنا النظام السابق، وإن شاءالله سنكون المدافعين عن حقوق العراقيين. وأخذ الحديث بيننا يمنة ويسرة، وكانت التساؤلات المصيرية تطرح عن خطط المرحلة، والإنتخابات القادمة، وقوة التمثيل في مناطق العراق المختلفة، وكان الرجل يجيب بثقة متناهية وهو يجلس في بيت مرفه، تحرسه عدة خطوط أمنية. ولكنني لمست درجة ما من الخوف، خوف من فقد الكثير، ولم يعد عنده القليل كي يقدمه. صدمني عندما كان يتحدث عن الفرقة بين الأطراف الشيعية، وكيف أن الإنتخابات قد يخسرها من يخسرها بسبب هذه الفرقة. تحدث حديث العاجز عن إعادة البعثيين إلى مواقع القرار، والوظائف، بينما تبقى أمور المفصولين سياسياً معلقة لحد الآن بين قرار خفي غير معلن، وبين بيروقراطية الفصائل السياسية العراقية الغبية، وبين لامبالاة القيادات السياسية والدينية. كان الرجل يتحدث بثقة ولكن بخوف. كان خائفاً من الفرز الطائفي، مع قوة تنظيم المتطرفين السنة وتفشي هذا التطرف بين المعتدلين منهم. كان خائفاً وبقوة من أن يرتكب هؤلاء تطهيراً عرقياً ضد الشيعة في المناطق التي يشكل فيها أقلية. لم يتحدث عن المنظمة، ولا عن أفراد الحماية الذين يلبسون زياً ذكرني بزي القوات الخاصة مع اللحية الكثة بالطبع.
المنظمة القوية والمدربة ذات الخبرة اصبح الكثير من أفرادها يتسربون إلى إيران مرة أخرى، بسبب إنقطاع الكهرباء، وإنعدام الخدمات، وباتت هذه المنظمة التي أرعب إسمها البعثيين أيام إنهيار النظام الأولى، مجرد خيال المآتة، تخشى من هجمات المقتدائيين، وتعاني من إملاءات الإيرانيين، وتحالفات هذا الفصيل مع ذاك في ظروف الفوضى وإنعدام الأمن.
بيروقراطيون ولكن نعيش في السماء
الجادرية، منطقة راقية في بغداد، يجلب نظرك فيها عمارة تتكون من عدة طوابق، تخضع لحراسة غير إعتيادية، مع وجود حواجز وحرس. تلقي التحية على الحرس الذين يرتدون الزي العسكري، فيردون عليك التحية، مع إستفهام عن الغرض التي قدمت من أجله. وبعد أن يقتنع هؤلاء الحراس، تخضع إلى تفتيش دقيق، وتجتاز عدة خطوط، إلى أن يؤذن لك بالدخول. يعتذر الذي يفتشك بخجل، والذي أصبح يعمل حارساً في المجلس بعد أن كان يعمل في البناء.
تتفهم في قرارة نفسك هذه الإجراءات الأمنية، فالقوم مستهدفون من الهجمات "الإرهابية" والتي تحدث في كثير من الأحيان دونما سابق إنذار. وبدعم في أحيان كثيرة من الجهة إياها التي تمد يد الصداقة والإسناد لنا نحن العراقيين-الشيعة.
تدخل باب العمارة لتكتشف أنك فيما يشبه إحدى الدوائر الحكومية المكتظة بالمراجعين. يواجهك في الباب مكتب وقد جلس حوله سبعة رجال، ينشغلون بالتدخين وتبادل الحديث. يلتفت إليك الذي يجلس خلف المكتب، ويطالبك بالهوية الشخصية، ويطلب منك معرفة سبب الزيارة، ومن تريد مقابلته. ثم يشير إليك كي تذهب إلى الطابق الثاني لأن الأخ أبو سيف هو الذي يستطيع الإجابة على تساؤلاتك أو مساعدتك. تصعد إلى الطابق الثاني، وفي الطريق تمر بالعشرات من الرجال دون أن تعرف بالضبط ماذا يفعلون هنا. وتسأل أين يقع مكتب أبو سيف. إنه إلى اليسار يجيبك أحدهم وهو يبتسم خارجاً من التواليت. وأخيراً تصل إلى مكتب أبي سيف، يستقبلك شاب في مقتبل العمر يجلس وراء مكتب و قد لبس لبساً بأناقة، يقول لك بإبتسامة أن أبا سيف غير موجود. لقد "إشتبه" من أرسلك أليه الآن. وينصحك الشاب الودود أن تذهب إلى أبي خنجر في الطابق الأول. وتنزل الدرج ماراً بهؤلاء الرجال، تسأل بعضهم أين يقع مكتب أبي خنجر، إنه إلى اليسار قرب الباب،
وأخيراً تجد أحدهم، يرحب بك في مكتب أبي خنجر، ولكنه ينبهك بنبرة قوية أن أبي خنجر ذهب وسيعود بعد ساعة، وينصحك والبشر يملأ وجهه، أن تأخذ الممر إلى الأمام كي تقابل أبي طبر، فهو الذي يستطيع مساعدتك. تذهب إلى مكتب أبي طبر، لتجده قد إمتلأ بالمدخنين يتبادلون الحديث، وهم يستمتعون بوجود الكهرباء الدائم في العمارة. إنه التبريد الجميل في حّمارة القيظ البغدادي. تتبادل النظرات بسرعة مع أبي طبر، والذي إرتفع أمامه على الحائط صور العائلة، مع خارطة للعراق وقد غطتها صور العائلة. تفهم من النظرات أنه يسألك ماذا تريد. أريد أن أسأل عن كيف يستطيع إنسان فصل سياسياً في عهد النظام أن يجد عمله مرة أخرى. ويجيبك بعجالة اللامبالي، بخرطة سريعة ولكن تفصيلية، عن الأنظمة واللوائح، والوزارات، والدوائر، التي يجب أن تمر عليها، مع إبتسامة ثقيلة تقول لك "بالمشمش". تشكره لاعناً البيروقراطية التي لا تنتمي إلى هذا المكان.
تقرر في يوم لاحق أن تزور المطار، وتخضع لتفتيش، حتى القلم يفتح كي يرى ما بداخله، ومن ثم تدخل، بعد أن تسلّم هويتك بالطبع. تجتاز الغرفة الصغيرة الخاصة بالحرس، والتي علقت فيها ساعة حائط فيها صورة محمد صادق الصدر. أمر غريب حقاً، أين محمد باقر الصدر إذن ؟
تجتاز الساحة الممتدة بين هذه الغرفة والمبنى الكبير الذي يرتفع عليه علم الحزب، وياليتهم رفعوا علم العراق بدلاً عنه. تجتاز بوابة المبنى كي تكتشف أنك في بيروقراطية أخرى تشبه بيروقراطية الدوائر الرسمية. يقف عدد من الحراس عند البوابة في الفيئ، أمام مكتب آخر يجلس خلفه أحدهم وهو يدخن، مع وجود لافتة كبيرة علقت على الحائط وراءه كتب عليها بخط عريض "لطفاً يمنع التدخين"وقد وضع أمامه سجلاً، يسجل فيه إسمك ووظيفتك ؟؟. وبعدها تستطيع الدخول.
إنك تريد أن تلتقي بالمسؤول الكبير. ولكنك قبل أن تلتقي به يجب أن تجلس تنتظر دورك. وفيما أنت تنتظر تجول بنظرك في المبنى، ترى "أبو مسدّس". شاب تبدو عليه سيماء الفهلوة، والفتوة. يستعرض مسدسه، مع قميصه ورباطه الأنيق. يخرج فجأة وهو يصيح بالمراجعين الذين لم يلتزموا بأوامره أن يجلسوا في المكان المخصص لهم. سأله أحدهم أنه جاء يسعى بمعاملة تخص إمرأة إستشهد لها 6 من عائلتها، من بينهم أولادها وزوجها، وأنه يتمنى ان يرد عليهم أحد الكبار في المكتب. وإذا بأبو مسدس يجيبه، بعين ملؤها اللامبالاة، وشنو يعني؟، آني هم أبوية شهيد. سبحان مغير الأحوال.
في مكتب آخر يسمى الشكاوى الخاصة بالنظام السابق على ما أظن، وهناك يستطيع بعض المفصولين سياسياً، أو الذين إستشهد ذووهم ، وحرموا من الوظائف أو الدراسة أن يحصلوا على تأييد من الحزب كي تقبل الوزارات التابعة لوزارة لعلاوي إرجاعهم. وفي هذا المكتب يجلس أحد "الموظفين"، ممارساً طريقة التحقيق، ورغم التعريف، وبعض الإثباتات، إلا أن هذا الموظف يستمر في ممارسة تحقيقه، كيف، ومتى، ولماذا، وهل، مع كل الاسئلة التي تخطر ببالك أو لا تخطر. وربما إقتنع أو لم يقتنع. وإن إقتنع، كتب التأييد، ووقعه مدير المكتب، بعد تمحيص وتدقيق تامّين. تخيل أن التحقيق شفهي، يدخل في تفاصيل حياة صاحب العلاقة، ومع ذلك فإنك ترى الغرفة وقد إمتلأت بالناس، يسمعون كل شيئ، ويعرفون كل شيئ، بل ويدلون بتعليقاتهم وآرائهم بالقضية الخاصة والمحزنة جداً في أغلب الأحيان.
مثالان يدلان على البيروقراطية عندما تتحول إلى مرض، ينخر في جسد تنظيمات وأحزاب، يبعدها عن الأمة، ويضعها في زاوية من يمارس الإستعلاء، والإبتعاد عن حقول المعناة اليومية للإنسان الشيعي العراقي. النظام بمعناه العظيم، تحول إلى قشرة هشّة توصف بالبيروقراطية الهزيلة. يعمل من خلالها موظفون، وحرّاس، ومدراء، ورؤساء أقسام. تحول إلى بيروقراطية بكافة أمراضها التقليدية، من فلترة المعلومات التي تصل إلى المسؤولين، وصعود المنتفعين، والوصوليين. وليت البيروقراطية تعمل بشكل جيد بحيث تغربل من يقدم، ومن يسود، ومن يؤمّر.
تلاحظ عجزاً أمام الظروف المتغيرة. وكأننا إكتفينا بهذا الإنجاز العظيم، مقرات، وحرس، وموظفين، وبيروقراطية. جميلة هي البيروقراطية، ولكن ليس في أحزاب تعمل في بيئة ديناميكية كديناميكية العراق في هذه الظروف إذ أنها تتحول إلى كارثة تدمر ما تبقى. البيروقراطية تتحول إلى دبابة ثقيلة تمنعك من الحركة في بيئة تمتلئ بالرمال المتحركة والأمطار والأوحال.
التكملة تأتي