بعد أحد عشر عاما من الغياب ..

العودة الى بغداد والهروب منها



صلاح حسن*


لحظة سقوط تمثال الدكتاتور صدام حسين في ساحة الفردوس كانت بالنسبة لي حدا فاصلا بين حلم طال انتظاره وكابوس ظل جاثما على صدري حد الاختناق . لقد اصاب عيني في تلك اللحظة تشوش وعمى مؤقت وبدأت اجفاني ترتجف بسرعة .. بحيث أنني لم استطع آن ارى المشهد جيدا فهرعت الى المطبخ وغسلت وجهي بماء بارد وعدت مسرعا الى شاشة التلفزيون . كانت الدبابة الأمريكية تسحب الصنم / التمثال وتسقطه أرضا . وكانت الجماهير الغاضبة تصفع وجه التمثال المنهار بالأحذية . كانت مشاعري مختلطة تماما . لم اكن سعيدا ، ولم اكن حزينا . كنت مرتبكا . لقد توقف إحساسي بالزمن وكنت في حالة انعدام الوزن . أخرجت قنينة نبيذ احمر وشربت كأسا كاملة جرعة واحدة فشعرت بعد دقائق قليلة بالتوازن وتيقنت آن ما يحدث امامي ليس حلما آو كابوسا ، بل هو بث حي من بغداد وليس من أي مكان اخر من العالم . ولكنني مع ذلك لم اكن لاصدق ما يجري . ارتشفت جرعة اخرى من النبيذ وقد استبد بي نوع غريب من القلق . لم اكن اعرف ماذا افعل .. كانت قنوات تلفزيونية كثيرة تبث المشاهد نفسها . فجأة رن جرس التلفون فتناولته واما اقول : هلو .. هلو .. غير آن الجرس ظل يرن فأكتشفت أنني كنت امسك بجهاز الريموت كونترول . رميته بأرتباك وتناولت التلفون ... كان احد اصدقائي على الخط وهو يصيح بأنفعال : هل رأيت الصنم وهو يسقط ؟ فقلت له : هل تصدق ؟ قال لي مبروك واغلق الخط . بعد ثانيتين رن جرس التلفون مرة اخرى فتناولته على الفور وقلت لماذا اغلقت الخط ؟ ولكنها كانت صديقتي آنا هذه المرة وهي تصيح بفرح غامر : لقد سقط صدام حسين ! في تلك اللحظة فقط شعرت أنني قد استيقظت من الكابوس وكانت لدي رغبة عارمة في الصياح ( لقد انتهى الكابوس .. انتهى الكابوس ) .



* * *

ولكن الكابوس لم ينته اذ بدأت مرحلة اخرى من الحرب القذرة . انها مرحلة السلب والنهب وتدمير المؤسسات العراقية الثقافية والفنية والعلمية والرياضية ابتداء من المتحف العراقي وانتهاء بالمستشفيات ، حتى دور رعاية المجانين لم تسلم من السلب والتدمير . كنت انظر الى هذه المشاهد وانا اتمزق الما وحزنا .. وكنت اقول في نفسي آن العراقيين ليسوا بهذه السذاجة بحيث يحطمون بلدهم بأيديهم ؟! كما انه ليس من المعقول آن يقوم العراقي بتمزيق هويته وحرق ثقافته وتراثه بنفسه وهو يعلم جيدا انه مستهدف من قبل الجميع وليس لديه ما يحتمي به سوى ثقافته وتراثه . لقد تبددت فرحتي بسقوط نظام صدام حسين سريعا وانا اتابع مشاهد الخراب الذي يطال المدن العراقية جمعاء .. وتذكرت خطاب صدام يوم اعتلى سدة الحكم اذ قال يومذاك ( كل من يفكر بأزاحتنا عن السلطة فأن عليه آن يتذكر اننا سنسلم له البلاد ترابا ) . فهل نفذ صدام حقا تهديده وبدأ ازلامه بالفعل بتحويل العراق الى ارض خراب ؟؟ .



* * *

في 9 نيسان اعلن الرئيس الامريكي بوش نهاية العمليات العسكرية في العراق . كان العراق بلدا خارج العالم .. اذ لم تكن هناك وسيلة للاتصال بالداخل بأستثناء ما كانت تنقله وسائل الاعلام التي كانت موجودة لمتابعة سير الحرب . ولم يكن بمقدور أي عراقي سواء كان داخل العراق آو خارجه معرفة مصير اهله آو اصدقائه . ولكنني كنت اسمع من بعض الاصدقاء آن ذويهم قد اتصلوا بهم عن طريق نوع من اجهزة الموبايل يسمونه ( الثريا ) – ولهذا الجهاز قصة سأرويها بعد قليل - غير آن الاتصال عن طريق هذا الموبايل مكلف جدا وسعر الدقيقة عشرة دولارات امريكية .. والعراقيون في الداخل لايستطيعون دفع هذه المبالغ للاتصال بأبنائهم المنتشرين في كل بقاع الارض . جهاز( الثريا ) تليفون موبايل تستخدمه اجهزة المخابرات في العالم .. وفي العراق يسمونه جهاز الجواسيس لان 130 جهازا منه اسقطت بغداد دون قتال كما يروي ذلك ضابط سابق في الحرس الجمهوري ( كان صدام يعرف آن الاتصالات ستنقطع اذا قامت الحرب ، لذلك زود مساعديه المخلصين من المخابرات والاستخبارات وقادة الجيش بهذه الاجهزة . غير آن المعارضة العراقية التي كانت تعمل مع القوات الأمريكية استطاعت آن تحصل على عدد غير قليل من ارقام هذه التلفونات وقامت بالاتصال بقادة الجيش ونصحتهم بعدم القتال في بغداد لانه عبث مقابل الحفاظ على حياتهم وحياة ابنائهم والعيش في امريكا كمواطنين امريكيين . وهكذا انسحب هؤلاء القادة الى منطقة قريبة من مطار بغداد حيث نقلتهم طائرات الهيكوبتر الى القواعد الأمريكية في الخليج ) .



* * *



بعد خمسة ايام تتصل بي اختي ( عن طريق الثريا ) لتبشرني آن عائلتي بخير وان اخوتي جميعهم مازالوا على قيد الحياة . كان صوتها يقطر دما وهي تتكلم .. هكذا شعرت .. لا اعرف لماذا . قالت سأعطيك رقما هاتفيا لتتصل بنا فورا . آنا الان في احد مكاتب ( الثريا ) المنتشرة الان في العراق . ارجو آن تتصل لانني لااملك ثمن المكالمة الهاتفية . اغلقت السماعة وبعد محاولتين تمكنت من الحصول على الخط. قلت لها هل حقا آن الجميع بخير حتى اخوتي ؟ قالت نعم وارجو آن تصدقني . قلت هل تستطيعين احضار اخوتي كلهم بعد ساعة من الان ؟ اريد آن اكلمهم كي اصدق ذلك . قالت بعد اقل من ساعة سيكونون هنا . متى ستعود الى العراق ؟ قلت احضري اخوتي اولا .. لا استطيع آن افكر بشكل واضح ... كيف حال امي ؟! قالت انها مريضة وتريد آن تراك قبل آن تموت . تستطيع آن تحضر الان الى بغداد .. اليس كذلك ؟ قلت : احضري اخوتي اولا ارجوك .



لدي اربعة اخوة احدهم اكبر مني والاخران اصغر مني طردوا كلهم من وظائفهم وتعرضوا للسجن بسبب موقفي المعارض لنظام صدام . لم اكن اصدق انهم مازالوا على قيد الحياة ( سأروي كيف كانت المخابرات العراقية تستجوبهم ) . بعد ساعة اتصلت مرة اخرى بالمكتب لاجد اخوتي جميعم بالانتظار .. طلبت الاخ الاصغر منهم لانني كنت اظن انه الاكثر عرضة للموت .. فقد كان يعمل ضابطا في سلاح مقاومة الطائرات . قال : اخي العزيز آنا بخير وبأختصار شديد لقد نجوت من الموت لانني هربت بمجرد آن بدأت الحرب . وقد قضيت ليلتين في البساتين قبل آن اعود الى البيت سيرا على الاقدام وبملابس مدنية كنت احتفظ بها لهذا الغرض . نحن جميعا بخير ونريد آن نراك في اقرب فرصة .. لم يعد في مقدورنا آن ننتظر اكثر . والدتك تبكي طوال الوقت وتقول اريد آن ارى ابني قبل آن اموت . قلت : سأعود بمجرد آن اتدبر تذكرة الطائرة .



بعد هذه المكالمة شعرت بخدر لذيذ يسري في جسدي كله ، وبدون وعي مني اتجهت الى الثلاجة واخرجت الحبوب المنومة التي كنت استخدمها اثناء الحرب ورميتها في كيس القمامة . قلت في نفسي – لم تعد لها ضرورة بعد الان - .

لاول مرة بعد زمن طويل اشعر بسعادة بالغة وحقيقية . تناولت التلفون واتصلت بالعزيزة آنا وبصديقاتي واصدقائي الهولنديين الرائعين واخبرتهم آن جميع افراد عائلتي بخير ففرحوا لهذا الامر وهنأوني بلطف يصعب وصفه حتى أنني شعرت أنني بين افراد عائلتي حقا .



* * *



كان مجرد التفكير بالذهاب الى العراق يثير في الرعب . وكنت اتذكر على الفور الكابوس الذي لازمني حتى فترة متأخرة من وجودي في هولندا . هذا الكابوس يعرفه العراقيون المنفيون جيدا . كنت احلم أنني ذاهب الى العراق لرؤية اهلي واصدقائي ولكن المخابرات تكتشف وجودي في الداخل وتبدأ بمطاردتي والقبض علي ومن ثم تسليمي الى عدي النجل الاكبر للدكتاتور الذي يقوم بتقييد يدي الى الخلف وسحق رأسي بحذائه الثقيل . كنت استيقظ مرعوبا واهرع مباشرة الى النافذة لارى آن كنت مازلت في هولندا آو في أي مكان اخر . ذلك آن هذا الكابوس رافقني في عمان ودمشق ايضا . لقد عرفت فيما بعد لماذا كانت المخابرات ( في الكابوس ) تسلمني الى عدي ! لان عدي بالفعل كان يطلبني بشكل شخصي كما روى لي الاصدقاء في بغداد .



وهاأنذا اليوم يتوجب علي آن اذهب الى بغداد ! كنت احاول آن اشكل في ذهني صورة لبغداد بعد كل تلك السنوات والحروب . ولكن الصورة كانت تتهشم ولايبقى سوى منظر لمدينة محطمة تشتعل فيها النيران وسكان ميتين وجنود غرباء مدججين بالاسلحة يطوفون في كل مكان . تعبت .. عجزت ذاكرتي في استحضار مشهد جميل من بغداد يمكن التشبث به كحلم يحفزني للعودة الى العراق . اتصلت بآنا واخبرتها أنني ينبغي آن اذهب الى بغداد بعد اسبوعين لرؤية امي الموشكة على الموت . اخبرتها ايضا أنني لااملك ثمن التذكرة . قالت : انتظر حتى المساء لدي بعض الحلول . في الثامنة مساء جاءت آنا ومعها اخبار سارة .. فقد استطاعت شخصيا آن تؤمن ( 500) ايرو كانت تحتفظ بها للظروف الطارئة واكثر من ( 300) ايرو اخرى من اصدقائنا المشتركين ( 100) من بلونا امها و( 100) من ستف صديق امها والباقي تبرع به عدد من اصدقائنا الرائعين . تنفست بعمق وانا استمع الى هذه الاخبار .. خصوصا وانني كنت موعودا بمبلغ اضافي من عدد اخر من الاصدقاء كدين . بعد يومين كان بين يدي ( 1300) ايرو وليس علي سوى آن احجز التذكرة .



* * *

في السابعة والنصف من مساء 12 تموز كنت خائفا ومرتبكا ونصف مخمور في مطار امستردام . كانت آنا تجاهد في تهدئتي . بعد ساعة ستقلع الطائرة الى عمان . وفي الواحدة ليلا سأكون هناك . آية لحظة حرجة هذه ؟ لقد حدث كل شيء بسرعة غير معقولة وعلي آن اتوجه الى الطائرة . آنا تنظر الي بطريقة مرعبة وكأنها لن تراني بعد الان . لقد جعلتني نظرتها تلك انهار .. اردت آن اتراجع .. تشبثت بيديها بقوة . لقد انتابني الاحساس نفسه .. ربما لن اراها مرة اخرى . أي احساس رهيب هذا الذي يجعلني اظن أنني ذاهب الى المجهول وانا متجه الى وطني ؟؟!

بمجرد آن حلقت الطائرة شعرت بقشعريرة .. ارتجفت وبدأت اتعرق . ناديت المضيفة وطلبت منها بصوت مرتعش آن تأتيني بقدح مليء بالويسكي . وبعد خمس دقائق كررت الطلب . سألتني آن كنت على ما يرام ؟ اجبتها أنني مرتبك قليلا واريد آن انام .. الويسكي يجعلني استرخي قليلا . بعد اربعة اقداح نمت نوما مضطربا ولم استيقظ الا في مطار الملكة عالية في عمان . يإلهي .. لقد كانت رحلة مريحة . هل هي اشارة على آن الامور ستسير بشكل حسن .. ربما .

انزعجت قليلا لانني لم اجد صديقي الذي وعدني انه سينتظرني في المطار وانني سأقضي الليلة في بيته . انها الواحدة والربع فجرا وانا مخمور . اوقفت سيارة تاكسي وسألت السائق اولا آن كانت هناك سيارات تذهب الى بغداد في هذه الساعة . قال نعم . فأن لم نجد سيارة فيمكنني آن اقلك الى احد الفنادق . قلت انها فكرة جيدة . كان السائق اردنيا وكان يتحدث عن الحرب والامريكان بغضب . قال انه لم يصدق آن بغداد سقطت بهذه السهولة مع آن الكثير من (المتطوعين العرب ) ذهبوا للدفاع عنها . قلت له : ومن يكون هؤلاء ؟ قال : شباب مسلمون من الاردن والسعودية وايران ومصر واليمن وسوريا ولبنان والكثير من الافغان العرب الذين كانوا يجاهدون في افغانستان . اضاف آن الاستشهاد من اجل بغداد عاصمة الدولة الاسلامية نعمة من الله على المؤمنين يارجل . قلت و( الرئيس ) صدام حسين .. اين هو الان ؟! قال بمرارة .. صدام بطل ولكن الجيش العراقي خانه . من كان يظن آن الجيش العراقي يفعل ذلك ؟؟؟ فقلت .. ولكنني اسمع آن الجيش مازال يقاوم الامريكان ؟ قال : هؤلاء بقايا فدائيي صدام والمتطوعين العرب .. وانا آسف اذ اقول لك آن العراقيين قد خذلوا العرب كما خذلوا صدام . توقفت سيارة الاجرة في الكراج ونزل السائق ليسأل فيما اذا كانت هناك رحلة الى بغداد . عاد بعد دقيقة ومعه شاب عراقي ذهب لينزل حقائبي دون آن يسألني فعرفت آن هناك سيارة ذاهبة الى بغداد .. وكانت جي ام سي امريكية الصنع وتتسع لسبعة ركاب والاجرة خمسة وثلاثين دولارا للشخص . نحن بحاجة الى راكب واحد فقط . قال السائق الشاب . فقلت آنا سأدفع اجرة شخصين ولكن بشرط آن توصلني الى مكان محدد في بغداد ؟ قال آن شاء الله . وبعد قليل انطلقت السيارة فأخذ قلبي يخفق بشدة .



* * *

جلست في المقعد الاوسط وحدي خلف السائق مباشرة . وكان في المقعد الاخير رجلان كبيران ينامان القرفصاء . فيما جلس رجل شاب بجانب السائق ظل يحدثه طيلة الوقت لكي يبقيه يقظا .

كانت الطريق من العاصمة عمان الى الحدود هادئة وشبه مظلمة . وكانت بين فترة واخرى تمرق سيارة وحيدة . خيم صمت على الجميع لاكثر من ساعتين حاولت خلالها النوم لكنني لم استطع . اخرجت قنينة الويسكي من الحقيبة وتناولت رشفة فسمعت احدهم خلفي يقول ( اعوذ بالله من الشيطان الرجيم . استغفر الله العظيم ) فالتفت اليه وقلت : هل ازعجتك ؟ فقال بتذمر .. انت تزعج الله وامامنا طريق طويلة . استيقظ الركاب فصاح السائق : ماذا يجري ؟ قلت بسرعة آنا آسف يا جماعة .. لقد تناولت جرعة من الكحول والسيد الذي يجلس خلفي استنكر ذلك .. القصة وما فيها هي أنني غادرت العراق منذ احد عشر عاما وانا عائد اليه اليوم ، لذلك فأنا مرتبك ومتعب . وانتم تعرفون آن الطرق طويلة ومتعبة . آنا آسف . فقال الجميع : ( اذا كان الامر كذلك خذ راحتك ) . وبادر الرجل كبير السن : ( الله يكون في عونك .. احد عشر عاما !! اشرب عمي اشرب .. لقد مكثت ثمانية اشهر في عمان وكنت احسبها دهرا .. اشرب .. اشرب ) . اسعدني هذا التعاطف وفرحت لان الروح العراقية غير المتطرفة مازالت موجودة . واصلت الشرب بدون ازعاج حتى الخامسة فجرا ولكنني كنت مرهقا جدا فأستولى علي النوم كليا ولم استيقظ الا عند الحدود الاردنية العراقية وكانت الساعة تشير الى الثامنة صباحا . فتحت عيني على مشهد شرطة الحدود فأرتعبت . ولكنني تذكرت أنني مواطن هولندي الان ولن تستطيع الشرطة الاردنية محاولة تسفيري الى العراق ( حدث ذلك قبل تسع سنوات ) ثم آن نظام صدام قد ذهب الى غير رجعة . اخرجت جوازي الهولندي وتقدمت الى الضابط بثقة .. سألني .. هل آن اسمك الكامل هو صلاح حسن ؟ قلت نعم . سألني مرة اخرى .. ما اسم امك ؟ فأجبته ساخرا .. آن اسمها كاترين . ناولني الجواز بسرعة وهو ينظر الي شزرا . ( كثيرا ما كان المواطن العراقي يهان على الحدود ) . لم نتأخر كثيرا في التفتيش رغم آن الكثير من العرب والاجانب كانوا ذاهبين الى العراق .. فهناك الكثير من السيارات التي تحمل علامات اردنية وقطرية واماراتية وسعودية واجنبية ايضا . غادرنا الحدود الاردنية باتجاه الحدود العراقية فطلبت من السائق آن يخبرني بالضبط متى ندخل الحدود العراقية . كنت انتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر . توقفت السيارة مرة اخرى عند نقطة التفتيش ( العراقية ) الأمريكية فأخرجت الكاميرا فورا وبدأت اصور الجنود الامريكان ورجال شرطة الحدود العراقيين بعد آن استأذنت منهم . لقد واتتني شجاعة مفاجئة وانا التقط لهم الصور ( انهم مخابرات العراق الجدد ) واردت آن اعرف ردود افعالهم . اظن أنني فاجأتهم قليلا بحيث آن احدهم قرر الذهاب الى الحمام بسرعة . بعد آن انتهيت من التصوير اقترب مني السائق وهو يقول : هذه هي الحدود العراقية . فقلت لا .. هذه نقطة تفتيش امريكية . ابتسم ابتسامة فاترة وعاد الى السيارة . لم تكن الحدود العراقية سوى ثكنة للجنود الامريكان ولم يكن رجال الشرطة العراقيون سوى مترجمين وحراس . كانت ببساطة حدودا ( مفتوحة) لكل من هب ودب . هذا ما اخبرني به المترجم الذي ترك العمل مع الامريكان وعاد بصحبتنا الى بغداد . تحركت السيارة من جديد .. وبعد دقائق معدودة رأيت قطعة على الطريق تقول : ( مرحبا بكم في العراق ) فقفزت في مكاني وبدأت اصيح ( آنا الان في العراق .. آنا الان داخل العراق ) .



* * *

قال المترجم : استاذ يبدو انك صحفي ، لدي كلام كثير اريد آن اخبرك به وارجو آن تنشره في الصحافة . سحب نفسا عميقا من سيجارته وقال : لقد تركت العمل مع الامريكان للتو ، لم اعد اطيق ما اراه . لقد سرق اللصوص البلد امام مرأى ومسمع الامريكان .. انظر الى اعمدة الضغط العالي .. حتى هذه لم تسلم من يد اللصوص ( كانت بالفعل محطمة رغم ضخامتها والاسلاك الكهربائية غير موجودة ) واضاف : كانت تأتي مئات من الشاحنات محملة بالنحاس والقصدير وبعض المعادن الثمينة مثل الزئبق الاحمر وتهرب الى الاردن . وكنت اتكلم مع الضابط الامريكي المسؤول عن الحدود من اجل منعها واعادتها الى العراق . ولكنه كان يقول لي آن لديه اوامر من القادة في بغداد بالسماح لها بالمرور . لقد تحطمت اعصابي وانا ارى هذه المشاهد تتكرر يوميا فقررت ترك العمل مع هؤلاء الكلاب .



انقضت ست ساعات من الرحلة وبقيت ثماني ساعات اقل ما يقال عنها انها رهيبة . فالحديث عن قطاع الطرق الذين يظهرون فجأة من مكان غير مرئي يصيب الجسد بقشعريرة . فنحن الان في الطريق الصحراوية الخالية من أي شيء يذكر بالحياة . كنت احرك رأسي يمينا وشمالا بحثا عن طائر آو شجرة . ولكن بصري كان يصطدم دائما بلون الافق المصبوغ بالتراب . ولقد كان مشهد اعمدة الضغط العالي الضخمة وهي منكسة الى الارض يزيد الطريق وحشة ورهبة . كانت السيارة تسير بسرعة 160 كم في الساعة وكنا قد قطعنا اكثر من 200 كم . فتح السائق فمه وقال : ( سنتوقف بعد نصف ساعة قرب المطعم .. يمكنكم آن تأكلوا وان تتبضعوا ) فتململ الركاب في اماكنهم وكأنهم كانوا نياما واخرجوا من جيوبهم اوراقا نقدية تراوحت بين الدينار الاردني والدينار العراقي والدولار . سألت السائق آن كنت استطيع آن ادفع بالدولار آو بالدينار الاردني فقال : نعم وان اردت آن تشتري دينارا عراقيا فيمكنني آن ابيعك . اعطيته عشرة دنانير اردنية فأعطاني حزمة ضخمة من الدنانير العراقية البالية . كان طعم الكباب لذيذا للغاية .. اكلت ما يكفي شخصين . دفعت بالعملة العراقية فأختفى ربع الحزمة فقررت آن ادفع بالدولار دفعا لوجع الرأس وذهبت لاتسوق من متجر مجاور . اشتريت صندوقين من الماء المعدني وصندوقا من العصير وخمسة كيلوغرامات من الحلويات للاطفال ( لم اكن اتصور مطلقا آن اخوتي واخواتي كان لديهم هذا العدد الهائل من الاطفال ) . كان السائق قد اتفق مع بعض زملائه السائقين آن ينطلقوا ابتداء من المطعم على هيئة قافلة تحسبا لهجمات قطاع الطرق . وهكذا وجدنا سيارتين بأنتظارنا . كان السائقون يسيرون بالتتابع ، وتفصل بين سيارة واخرى مسافة مئة متر تقريبا مما جعل الركاب يشعرون ببعض الطمأنينة . ولكنني شخصيا كنت متوترا لان الطريق طويلة ومقفرة ولون التراب الذي يغطي الافق يصيب العين بالعمى . فجأة نسمع صوت طائرة هليكوبتر اباتشي يقترب ببطء . قال السائق توجد هنا قاعدة امريكية . كانت هناك دبابة عراقية محترقة بالقرب من جسر تعرض لقصف شديد . خفف السائق من السرعة واضطر للاستدارة من خلف الجسر لان الحفر كانت تملأ الطريق .

لايوجد أي شيء في الافق يوحي بأننا سنصل الى مدينة آو حتى قرية . قلت للسائق بعد كم ساعة ونصل الى بغداد ؟ قال حاول آن تنام . فعلق احد الركاب ( يبدو آن بغداد قد رحلت ) .



* * *

يضطر الانسان في بعض الاحيان الى الالتفاف حتى على نفسه من اجل التخلص من شعور طاغ . هذا ما فعلته ونحن على مشارف مدينة الانبار التي هي واحدة من اخطر بؤر الصدام في العراق الان . اذ آن تسعين في المئة من سكانها هم من انصار الرئيس المخلوع صدام حسين . قال السائق بحزم ..سأسلك طريق المدينة بدلا من الطريق السريع .. على الاقل توجد قوات امريكية داخل المدينة . لم ينطق أي من الركاب بكلمة . اول شيء صادفناه هي جامعة الانبار التي تحولت الى مقر للقوات الأمريكية وكانت محاطة بعدد كبير من الدبابات . الملفت في الامر هو عدد الدوريات الأمريكية التي ترابط في كل شارع والعجلات الصغيرة التي لاتتوقف عن الحركة . خرجنا بسرعة الى الطريق المؤدية الى بغداد وكان التوتر باديا على الركاب . اطلقت تنهيدة قوية جعلت السائق يفتح النافذة وهو يقول : بعد ساعة وينتهي كل هذا العذاب .. لم يبق امامنا سوى ( الفلوجة ) . كنت اعرف آن الفلوجة هي مصدر رعب العراقيين والامريكان على حد سواء ، لاتمر ساعة دون آن تحدث مواجهات فيها . اضاف السائق : نحن الان بيد الله .. علينا آن نترك الامر لله .. وسرعان ما بدأ الرجلان الكبيران بقراءة آيات من القرآن بصوت خفيض . لقد بقيت امامنا ساعة .. هذا ما قاله السائق .. ولكن الزمن بالنسبة لي قد توقف . شعرت بالاختناق ( درجة الحرارة تقترب من الخمسين مئوية ) كانت الساعة تشير الى الثانية ظهرا وتوقفت عند هذا التوقيت . هكذا خيل لي . سألت كم الساعة ؟ فأجاب احدهم انها الثانية والربع . فقلت ساعتي تعمل ببطء ! نزعتها ووضعتها في جيبي ولكنني كنت بين الفينة والاخرى انظر الى ساعة المترجم الذي يجلس الى جواري . سألته آن كانت ساعته تعمل بشكل جيد ؟ قال نعم .. واضاف : ( هذا هو مثلث الموت ) وكان يقصد اننا دخلنا الفلوجة . اتسعت عيناي بشدة وانا ارى الكثير من الدبابات الأمريكية وهي تقلق المكان بحركنها المتوترة الخائفة . كان يجلس على كل دبابة جنديان في اتجاهين متعاكسين وهما مستعدان دائما لاطلاق النار . كان الخوف واضحا على وجوه الجنود الامريكان بسبب حركاتهم العصبية . سمعنا ضجة خلفنا .. كان رتل مسرع من الاليات الأمريكية وعلى الفور اتخذت السيارات المدنية الاتجاه الايمن من الطريق فاسحة المجال للرتل كي يمر . في الفلوجة يطلق الامريكان النار على أي شخص يقوم بحركة غير طبيعية ، لذلك يبقى كل شيء جامدا حتى يمروا . مرة اخرى تتباطأ السيارات وتتخذ الاتجاه الايسر لان الرتل قادم من بغداد باتجاه الفلوجة . كانوا يسيرون بسرعة كبيرة خوفا من قاذفات (ال ر ب ج 7 ) التي يمكن آن تنطلق من أي مكان . كان الشارع بمثابة ساحة حرب لا احد يعرف متى تنطلق النيران وفي أي اتجاه . خرجنا من الفلوجة ولكن الخطر مازال ماثلا ، فالمسافة الممتدة بين الفلوجة وسجن ابو غريب الرهيب تنتشر فيها بساتين النخيل الممتدة على جانبي الطريق وغالبا ما تنطلق الهجمات الخاطفة من هناك .. اذ يستطيع المهاجم آن يختفي بسهولة في تلك البساتين .



كان يتنازعني احساسان : الموت بطريق مجانية وانا على مقربة عدة كيلومترات من اهلي ، ونفاد الصبر وعبث الرحلة كلها . ولكن سرعان ما تبخرت هذه الاحاسيس .. فهذه بغداد لم ترحل .. ولكنها محطمة ، محروقة ، هرمة ، غير انها تتنفس من جرحها . فجأة شعرت بحرارة الجو الخانقة .. مشهد المباني المحترقة يفرض عليك احساس بالاختناق . الازدحام في شوارع بغداد غير معقول على الاطلاق .. اكثر من 700 الف سيارة تسير في شوارع بغداد دون اشارات ضوئية ، دون شرطة مرور . انها الفوضى بأعلى تجلياتها .. ابواق السيارات تسمع في كل مكان . وصلنا علاوي الحلة احد اكبر الكراجات في بغداد والمواجه للمتحف العراقي . كان هناك ثقب كبير في جدار المتحف ( واضح انه من جراء قذيفة ضخمة ) وكانت هناك دبابة امريكية تحرس المتحف ( بعد خراب البصرة ) !! . نزل الركاب فذكرت السائق بأنه يبنغي آن يوصلني الى منطقة الدورة . اين في الدورة ؟ سأل . في حي الصحة . عندما وصلنا حي الصحة لم استطع آن اجد بيت اختي .. لقد تغيرت المنطقة تماما والمساحات التي كانت خالية قبل عشر سنوات تحولت الى مناطق سكنية كثيفة . قلت للسائق الذي بدأ يفقد صبره .. لنسأل احد المارة . اشار الرجل الى شارع قريب فتذكرت المكان على الفور . قلت للسائق هنا .. عند هذا الباب الابيض . نزلت من السيارة وانا ارتجف من شدة التوتر . كان الباب مفتوحا ولكنني قرعته بشدة فخرج ابن اختي الكبير ، نظر الي للحظة ثم صرخ بشدة ( تعالوا .. خالي صلاح وصل ) فخرج جمع كبير من الاطفال والنساء وهم يبكون ويصرخون وراحوا يعانقونني بحرقة . بعدها تجمهر الجيران لرؤية ما يجري . لم استطع التوقف عن البكاء .. حتى السائق كان يبكي . الاطفال الصغار وحدهم عجزوا عن تفسير ما يحدث . سألت طلفة اباها .. بابا من هذا الرجل ؟ نظر الي بحيرة وقال : هذا جدو .. جدو صلاح .!



* * *

لم امكث في بغداد سوى ساعة .. كنت اتحرق شوقا لرؤية امي العزيزة . في تلك الاثناء ذهب ابن اختي الاصغر ليزف النبأ السعيد الى اختي الاخريين اللتين تسكنان في حي السيدية القريب من الدورة . صرخ الاطفال الذين كانوا يملأون البيت آن خالة ابتسام وخالة فاطمة قد حضرتا . دخلتا تتراكضان واخذتا تعانقانني وبدأت دورة جديدة من البكاء . كانت لدى اختي ابتسام سيارة حديثة انطلقنا بها الى الحلة – 90 كم جنوب بغداد - كان ابن اختي يقود بسرعة كبيرة اضطررت الى تنبيهه عدة مرات . كان يقول نعم سأخفف السرعة ولكنه يقود بالسرعة نفسها . وصلنا بأسرع مما كنت اتوقع . وفي مركز المدينة توقف علي قرب مكتب للموسيقى الشعبية . تكلم معهم بسرعة وعاد الى السيارة فسألته ماذا ننتظر ؟ قال الفرقة الموسيقية . فقلت لاضرورة لها .. غير آن اختي الصغرى تدخلت : ينبغي آن يعرف الجميع انك عدت . قبل آن نصل البيت بخمسين مترا اشار علي الى الفرقة كي تبدأ فبدأت ارتعد واخذت الدموع تترقرق في عيني . ما آن وضعت قدمي داخل الدار حتى بدأوا بأطلاق النار في الهواء وقام احدهم بنحر خروف كان اعد لهذه المناسبة . توجهت فورا الى امي التي كانت تجلس على احد الاسرة القديمة في باحة الدار وانخرطت ببكاء كنت اختزنته لمدة احد عشر عاما . قبلت وجهها ويديها وعينيها وفوطتها وعباءتها .. كنت اريد آن اعود الى رحمها الدافئ من جديد . وكانت هي تضمني الى صدرها وهي تبكي وتقول : الحمد لله ، لقد رأيتك قبل آن اموت .. لا اريد أي شيء من الدنيا بعد الان . قبلت اخوتي واخواتي وابناءهن وازواجهن .. قبلت الجميع فيما كانت النساء يلقين فوق رأسي الحلوى وكأنني عريس في ليلة زفافه .



* * *

في اليوم التالي ، وبعد آن اطمأننت على استقرار الحالة الصحية لامي قررت آن ابدأ بالمهام الاخرى التي جئت من اجلها . المهمة الاولى هي مشروع الكتب من الجامعات الهولندية الى الجامعات العراقية المتضررة . والثانية البحث عن قطعة ارض في مدينة بابل لمشروع بناء معهد مسرحي اتفقت عليه مع المخرج المسرحي العراقي حازم كمال الدين الذي يقيم في بلجيكا . اتصلت عن طريق الثريا بالدكتور عصام الخفاجي من اجل ترتيب موعد مع احد المسؤولين الامريكان .. لكن الدكتور عصام لايرد . اتصلت اكثر من عشر مرات دون جدوى فقررت آن ابدأ بالمهمة الثانية . استأجرت تكسيا وطفت في جهات المدينة كلها . اخترت ثلاث مناطق وعملت في اليوم التالي موعدا مع المحامي لمعرفة اجراءات البيع والشراء . عاودت الاتصال بالدكتور عصام بلا طائل . كنت قد سمعت من اخوتي آن احد اصدقائي اصبح محافظا لمدينة بابل فقررت زيارته .. انه السيد اسكندر وتوت ، وعائلة وتوت معروفة في المدينة كلها . دخلت على مدير المكتب فرحب بي وانا اشرح له سبب الزيارة . بعد عشر دقائق دخلت على المحافظ الذي استقبلني بلطف . شرحت له بأختصار المشاريع التي جئت من اجلها فتناول التلفون واتصل بالدكتور فاضل فرهود رئيس جامعة بابل وعمل لي موعدا معه وقال : سأوفر لك سيارة لهذه المهمة . فقلت شكرا لدي سيارة وودعته لمقابلة رئيس الجامعة . كان رؤساء الاقسام موجودين ، وعندما طلبت منهم آن يزودوني بقوائم المصادر التي تحتاجها الجامعة قال احدهم نحن مقطوعون عن العالم منذ ثلاثة عشر عاما ولا نعرف الكتب التي صدرت اخيرا .. نريد مصادر في الطب والهندسة والفيزياء ..الخ . سألت رئيس الجامعة آن كانت لديهم اماكن لخزن الكتب ( كنت قد اتفقت مع المحافظ الذي تعهد لي بحماية الكتب من السرقة والمساهمة بنقلها من ميناء ام قصر الى مدينة بابل ) .. قال رئيس الجامعة : نعم لدينا مخازن وسيارات كبيرة لهذا الغرض .

بعد هذه الجولة الطويلة عدت الى بيتنا في القرية فوجدتهم قد اعدوا اصنافا عديدة من الطعام اللذيذ . قبلت امي وجلست الى جوارها . كان عدد الحاضرين كبيرا .. خصوصا الاطفال لذلك تناولنا الطعام على شكل مجموعات كما يقتضي العرف العشائري ، الرجال اولا ثم النساء والاطفال . في السادسة مساء ذهبت الى المحامي واخبرته بالمناطق التي اخترتها .. الاولى كانت على شاطئ الفرات ، وهي خضراء وهادئة . قال : آنس هذه المنطقة . لماذا ؟ سألته بأستغراب . قال : لقد اشتراها اليهود ! ( يوجد في مدينة بابل الكثير من قبور انبياء اليهود مازال الكثير منها عامرا حتى الان ) . في النهاية اتفقنا على قطعة ارض قريبة من مدينة بابل التاريخية . قال انه سيتكفل بالتفاصيل .

قضيت الايام التالية مع الاصدقاء الذين فارقتهم سنوات طويلة . حدثني بعضم كيف كانت المخابرات تستجوبهم من اجل الحصول على معلومات عني . والبعض الاخر اخبرني عن التقارير المخابراتية التي كتبت ضدي ومن كتبها . ( بعض هذه التقارير موجودة لدى شخص اسمه الحاج بدري وهو يرفض تسليم هذه التقارير حتى تشكيل حكومة عراقية كي تقوم بمحاكمة البعثيين الذين كتبوها وساهموا في قتل العديد من الناس الابرياء ) . تلقيت دعوات كثيرة من الاصدقاء ، وفي احدى الجلسات .. وكانت تضم اصدقاء حميمين جدا وصفني احدهم بالبطل ( ايام الانتفاضة كنت اقود مجموعة مسلحة في بابل ) والاخر بالمناضل والثالث بالشاعر الكبير . اخجلني هذا الاطراء . حدثوني كيف كانوا يستنسخون قصائدي ومقالاتي من الصحف التي تصلهم من الخارج بشكل سري ويوزعونها على الاخرين . فرحت جدا لان سنوات المنفى لم تذهب سدى . عندما عدت من هذه السهرة جمعت اخوتي وسألتهم كيف كانت المخابرات العراقية تستجوبهم . اخي الكبير قال : انت تعرف أنني بلا عمل منذ هروبك من العراق ولكنني اعمل احيانا في سوق الهرج ( سوق الحاجيات المستعملة ) ولكنهم كانوا يأتون الى هناك ويطلبون مني آن ازورهم في مديرية الامن وان اقدم لهم شرحا مفصلا عن اتصالاتك واخبارك . مرة جاء ضابطان من مخابرات عدي وقالوا لي قل لاخيك آن يترك هذا العبث وان يعود الى البلد ( ونحن في خدمته ) . اخي الاصغر وهو ضابط كان قد تحمل الوزر الاكبر قال : كان لايمر اسبوع دون آن استدعى للاستخبارات العسكرية . لقد قلت لهم اننا ( تبرأنا ) منك ولكنهم لم يتركوني ابدا .. طلبوا مني آن اتعاون معهم .. آن اكتب لهم التقارير عنك بالتفصيل فقلت لهم سأفعل . نقلوني الى منطقة نائية ، ومرة كنت احاول آن اطلع على البريد القادم الى وحدتي العسكرية فأتهموني بأنني احاول تسريب معلومات عسكرية محرمة واقتادوني الى السجن .



قضيت اسبوعا في مدينة بابل وقررت آن اذهب الى بغداد ولكن اختي اصرت على آن تصطحبني معها الى مدينة الصويرة ( 90 كم شرق بغداد وهي المدينة التي انجبت الزعيم عبد الكريم قاسم ) . عاد علي ابن اختي يقود السيارة بسرعة .. وبعد آن مللت من تحذيره اخرجت جريدة وبدأت اقرأ بها . فجأة انحرفت السيارة وبدأت تسير على عجلتين ثم انقلبت واستقرت على احد جانبيها في ارض مزروعة على جانب الطريق . خرجت فورا من الشباك الخلفي الذي تحطمت زجاجته وانا منذهل . اخرجت ابن اختي الصغير وحاولت آن اخرج اختي التي بدت ثقيلة جدا . كنت خائفا من جلكان البنزين الموضوع في مؤخرة السيارة .. ربما يشتعل حريق وقد تنفجر السيارة وتموت اختي . بعد دقيقة آو اكثر حضر عدد من القرويين واعانونا على اعادة السيارة الى وضعها الطبيعي واخراج اختي التي كادت تموت من الرعب . اخرجوا ايضا جلكان البنزين ووضعوه بعيدا . كنا مازلنا تحت تأثير الصدمة حين حضرت دورية امريكية . سألنا الضابط آن كنا بحاجة الى مساعدة طبية ؟ قلت وانا استرجع بعضا من وعيي اننا على ما يرام . كانت السيارة قد اصيبت بأضرار بالغة . لقد كانت معجزة آن ننجوا . لااستطيع حتى الان وصف ذلك . بعد يومين ذهبت الى بغداد وكنت دعيت للمشاركة في مهرجان الجواهري الشعري الاول . استأجرت سيارة تاكسي في الطريق الى كلية الاداب . كانت السيارة تسير ببطء في مدينة السيدية بسبب الازدحام الشديد الذي احدثه وجود رتل من الدبابات الأمريكية على بعد ثلاثين مترا . فجأة يحدث انفجار هائل في احدى الدبابات ثم اطلاق نار في كل الاتجاهات .. السيارات تصدم بعضها البعض والناس يتراكضون على غير هدى .. طائرات هليكوبتر تحلق فوق المكان .. فوضى عارمة ورعب شامل لا يحدث حتى في الافلام السينمائية . في اليومين التاليين مكثت في بيت اختي استرجع ما حدث لي خلال الزيارة . اتصلت بالعزيزة آنا وقلت لها آن كل شيء على ما يرام وان صحة امي مستقرة وسوف اعود الى هولندا بعد اسبوع . كنت قد اتفقت مع احد الاصدقاء الصحفيين على اجراء مقابلة للجريدة التي يعمل لها . كان مبنى الجريدة في منطقة الكرادة وهي حي راق من احياء بغداد . انهيت المقابلة بسرعة لانني كنت على موعد مهم مع صديق كان قد اصبح جنرالا كبيرا وهو مرشح لان يتسنم منصبا في وزارة الدفاع الجديدة ولديه علاقة وطيدة مع الامريكان .. وقد وعدني انه سيجمعني بجنرال امريكي من اجل انهاء مهمة الكتب التي سأجلبها من هولندا الى العراق . خرجت من مبنى الجريدة ووقفت انتظر سيارة تكسي . توقفت بقربي سيارة سوداء من نوع دولفين وسمعت احد ركابها يقول لرفاقه : ( هذا الاجنبي – يقصدونني – انزلوا واجلبوه بسرعة ) ‍؟ طار صوابي وانا اسمع هذا الكلام . عبرت بسرعة الى الجانب الاخر من الشارع واوقفت سيارة وقلت للسائق بسرعة ارجوك الى ساحة الاندلس . كان قلبي يخفق بشدة . وكنت اتنفس بصعوبة وانا اتلفت للخلف بين لحظة واخرى . لقد كانت العصابة تظن أنني اجنبي لا افهم اللغة العربية وان حقيبة الظهر التي احملها مليئة بالدولارات . بعد هذه الحادثة قررت آن اعود الى هولندا بأسرع وقت ممكن .



* * *

ظاهرة خطف النساء في بغداد اصبحت شائعة . تقوم العصابات بخطف النساء الجميلات واغتصابهن ثم مطالبة اسرهن بدفع فدية لاطلاق سراحهن . سرقة السيارات وقتل اصحابها من الامور العادية . ( الامريكان لايتدخلون في مثل هذه الامور . يقولون اننا لسنا شرطة ) ‍؟؟ اما سرقة المتحف العراقي وتدميره فقد اجمع كل الذين التقيتهم على آن الامريكان ومعهم عدد من الكويتيين هم وراء ذلك . لسبب بسيط .. قال احدهم : آن الامريكان لايؤمنون بوجود ثقافة آو حضارة غير الثقافة الأمريكية . وتدمير الثقافة العراقية يسهل عليهم نقل حضارة الماكدونالد الى العراق . اما الكويتيون فقد جاءوا ينتقمون لما فعله بهم صدام اثناء احتلاله للكويت . وقضية شحة البنزين والغاز في العراق مضحكة مبكية .. فمصافي النفط تعمل بكل طاقتها والانتاج من النفط يذهب الى امريكا .. بينما يستورد الامريكان الغاز والبنزين للعراق من تركيا . مدينة بابل هي الاكثر استقرارا في العراق والامريكان يطلقون عليها اسم ( الوردة البيضاء ) انها المدينة الوحيدة التي يسير فيها الجنود الامريكان بدون سلاح . المتطرفون الاسلامويون من البلدان المجاورة بدأوا يتسللون الى المدينة .



* * *

العراق الان اشبه بالسوق الحرة المفتوحة امام الجميع .. تجار الاسلحة والافكار المتطرفة .. تجار المخدرات والرقيق والاثار والزئبق الاحمر . انه مسرح مفتوح ويستطيع أي شخص آن يلعب الدور الذي يريده وبالذخيرة الحية . لقد ظن العراقيون انهم خرجوا من الكابوس ولكن هيهات .





* شاعر عراقي مقيم في هولندا .