عائدة محمود
قبل الحرب الأخيرة تركز وجود المتسولين في منطقة السعدون، حيث كانت عصابات التسول تسخر الأطفال والنساء للاستجداء في الشوارع واقتطاع نسبة كبيرة من إيراداتهم اليومية مقابل توفير الحماية وبعض الطعام لهم، وكانت هناك دار واحدة تأوي المشردين تابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية تقع في منطقة بعيدة عن بغداد، إلا أن معظم الفتيات اللواتي كن يسكن تلك الدار قد تشردن بعد دخول القوات الأمريكية إلى العاصمة..
أسباب التسول
كشفت دراسة ميدانية أعدتها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أن التشرد وعدم الاستقرار في البيوت أحد أعم أسباب التسول، وخلصت الدراسة إلى أن أهم الأسباب يمكن إجمالها بما يألي:
1- اسباب عائلية تتمثل في تفكك الروابط الاجتماعية للعائلة وكثرة الإنجاب بسبب جهل الأم أو الوالدين معاً، وزيادة نسبة الطلاق أو تعدد الزوجات.
2- أسباب تخص المجتمع وهي عامة فما تدني مستوى الوعي العام، وارتفاع تكاليف المعيشة، وقلة موارد العائلة، وعدم توفر مراكز لممارسة الشباب الهوايات المتنوعة واستثمار وقت الفراغ، ومعاناة الأسرة العراقية مع تبعات الحروب والحصار الاقتصادي لسنوات عديدة، وقلة وسائل التثقيف ولاسيما في العقدين الماضيين.
وتجدر الإشارة إلى أن قانون الرعاية الاجتماعية رقم 127 لعام 1980 يرعى القاصرين من كلا الجنسين دون سن الثامنة عشرة من العمر وكل من يعاني أو تعاني مشاكل أسرية أو فقدان الوالدين أو أحدهما، وكذلك مجهولو النسب.. وبالرغم من أن إدارة "دور الدولة لرعاية الأيتام" التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية تشرف حالياً على 21 داراً للأيتام خمس منها في بغداد تضم نحو 290 مستفيداً وست عشرة داراً في المحافظات تضم. بحدود 545 مستفيداً إضافة إلى الإشراف على دارين للمشردات والمشردين من كلا الجنسين إلا أن الحاجات الحقيقية في الشارع تفوق قدرة الخدمات التي تقدمها كل هذه المراكز التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية.
دار الطفل للبنات
في منطقة الأعظمية على ضفاف نهر دجلة تقع دار الطفل للبنات التي سيجت بعناية شديدة من أجل حماية الفتيات المتسولات والمشردات.. مسؤولة الدار تحدثت لنا قائلة:
تم تأسيس دار الطفل للبنات في 18 / 2 / 2004 وهي تؤوي 20 فتاة تتراوح أعمارهن بين 6 - 20 سنة. وتؤكد المسؤولة أن إفرازات الحرب الأخيرة كان لها دور رئيس في ظهور حالة التشرد إضافة إلى تدني الحالة الاقتصادية.. وبعد تعرض الفتيات للعنف داخل بيوتهن أحد العوامل التي تدفعهن إلى تفضيل حياة الشارع على الرجوع إلى منازلهن.. وتشير المسؤولة إلى أن ظاهرة التشرد والتسول التي نراها اليوم كانت موجودة قبل الحرب أصلاً. ثم بدأت الحالة تزداد سوءاً بعد حرب الخليج عام 1991 وفرض العقوبات الاقتصادية، والمشكلة الأكبر تكمن في الشارع الذي قد يعرض الفتاة إلى اعتداءات جنسية، وقد يسلك بعضهن طريق الدعارة.
مع الفتيات
السيدة مسؤولة الدار وفرت لنا فرصة اللقاء ببعض الفتيات النزيلات في الدار.
تقول رباب (16) سنة وهي فتاة خجولة هربت مع اختها من بيت والدهما بسبب المشاكل التي تخلقها دوماً زوجة الأب. بأنها مرتاحة في الدار وإذ هي لم تدخل إلى المدرسة سابقاً فإنها تنوي تعلم بعض المهارات مثل الخياطة التي ربما ستساعدها في حياتها.. وتقول ليلى (16) سنة إنها قضت 6 سنوات الماضية في دار الأيتام بعدما توفي والدها وابتدأت معاناتها بسبب اختها الكبيرة التي اعتادت على ضربها ودفعها إلى التسول للحصول على المال.. وتؤكد ليلى أن أغلب المارة كانوا يتحرشون بها للإيقاع بها..
لقاء في ساحة الطيران
إن السياسة النزقة التي اعتمدها النظام السابق بتصفية كل المعارضين لاستبداده فضلاً عن حروبه الثلاث الكارثية أفقدت نسبة هائلة من العوائل العراقية أربابها مما أدى بالكثير من تلك العوائل إلى التفكك وصرنا نرى الفتيات والأرامل منهن أو اليتامى يزداد عددهن بشكل مخيف وأخذن يفترشن الساحات والشوارع. ففي ساحة الطيران مثلاً يوجد العديد من النساء المتسولات وقد حملن أطفالاً بلا حركة ويبدون أشبه بالموتى.. الحوار التالي أجريناه مع أم افترشت الأرض مع ولديها اللذين يغطان في نوم عميق سألناها:
*لماذا تتسولين مادمتي قادرة على العمل؟ وأين والد هؤلاء الأطفال ولماذا ينامون هكذا بدون حركة وهم أشبه بالمخدرين؟ تقول المتسولة:
- هؤلاء أولادي.. وهم يعانون من المرض.. والد الصغار قتل في الحرب الأخيرة أثناء القصف.. كنا نسكن في غرفة واحدة بحي العامل.. طردني صاحب الدار لأنني لا أقوى على دفع الأجرة البالغة 25 ألف دينار آنذاك.. لم أجد العمل الذي يعيل هؤلاء الصغار.. ثم من الذي يشغلني ومعي اثنان لا يتجاوز عمر اكبرهما الـ4 سنوات؟ أعيش على ما تجود به الأيادي الكريمة..
*لماذا لا تذهبين إلى الرعاية الاجتماعية فهي تصرف لكل أرملة راتباً مجزياً؟
- لقد ذهبت وطلبوا مني - الجنسية - لي وللأولاد وأنا لا امتلك الهوية أو الجنسية كذلك الصغار فطردوني وقالوا إنني لا استحق الراتب..
*هل التسول مهنة مربحة؟
- لا والله.. إنها مذلة.. لكن ما العمل إذا كانت الملجأ الوحيد لي..؟!
مع نرجس ونسرين
نرجس.. ونسرين فتاتان بعمر الزهور تحدثتا إلينا قائلتين:
- نزحنا من دهوك بعد مقتل والدنا حيث طردتنا زوجته ورمت ملابسنا في الطريق.. صعدنا سيارة (كيا) وقلنا للسائق إننا لا نملك الأجرة فوافق على أخذنا إلى بغداد، أعطانا بعض النقود وأوصلنا إلى أحد الجوامع.
أحد المصلين عندما شاهدنا اقترح علينا أن نعمل خادمتين في داره ودار جيرانه.. عملنا لمدة ثلاثة أيام إلا أن ابن ذلك الرجل الطيب تحرش بنا.. هربنا إلى الطريق.. جئنا إلى منطقة الكرادة وتقاطع المسبح.. هناك رجل يجمعنا وينظم شؤون العمل ويقسم المناطق بيننا إنه - أبو شهاب - المقاول الخاص بالمتسولين..
*أبو شهاب هذا كم تدفعان له يومياً؟ وأين تقضيان الليل بعد انتهاء العمل؟
- هناك وزارة مهجورة ومحروقة ومخربة نبيت فيها ليلتنا ثم يأتي - أبو شهاب - ويأخذنا في سيارة بيك آب ويوزعنا على المناطق لقاء مبالغ من المال، فهو يستولي على كل ما نحصل عليه من نقود وهبات.
*ما مقدار ما تحصلون عليه في اليوم الواحد.. ومتى يكون العطاء سخياً؟
- الرزق من الله قد يصل - المبلغ - اليومي إلى خمسة آلاف دينار ويزداد في أيام الجمع وشهر رمضان وفي العيد... "ولكن لماذا تسألين؟.. هل انت من التلفزيون؟ إذا رآنا أبو شهاب لقتلنا.." وقد أخبرتها أنني لا أحمل (كاميرا) وليست لي نية في تصويرها ارتاحتا بعض الشيء... الغريب إنهما لم يتحدثا معي في البداية إلا بعد أن اعطيت لكل واحدة منهن 250 ديناراً "ربع دينار على حد قولهما"..!!
أردت ان أمزح!
في تقاطع الجادرية توجد الفتيات والنساء بشكل ملفت للنظر.. سألت إحداهن:
*لماذا التسول وأنت قادرة على العمل؟
فأجابت بعصبية:
- الرجال عطالة بطالة..! وهل يوجد عمل لتعمل النساء به؟
*تعالي أعملي في داري بصنعة - خادمة -!
- وكم سيكون الراتب؟ إنني لا أقبل بأقل من 100 ألف دينار شهرياً وملابسي وطعامي من اختصاصك أنت.
*وهل يوفر لك الاستجداء مثل هذا المبلغ؟
- يوفر لي أكثر منه بكثير.. لكنني أردت أن أمزح معك!
مع شرطي المرور
سألت أحد أفراد شرطة المرور في تقاطع الجادرية حيث تتجمهر المتسولات:
*ألا يزعجك هذا الكم الكبير من المتسولات. لماذا لا تمنعهن؟
- لست المسؤول.. أنا أنظم السير فقط، هذه مهمة الشرطة وشرطة النجدة ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية.. ولكن دعيني أسألك: هناك أكثر من 70 جمعية ومنظمة واتحاد للمراة العراقية أليس من واجب تلك الجمعيات أن ترعى شؤون المرأة وألا تجعلها فريسة لوحشية الشارع؟ فأقل ما يلحق بها من أضرار هي تلك الانفجارات وحوادث السير والدهس، إضافة إلى التحرش بهن من قبل المارة. تظهر لدينا بيوت دعارة منظمة يديرها أناس أصحاب اختصاص.. لماذا لا تناقش تلك الجمعيات مثل هذه الأمور؟
وحين سألته عما إذا كان قد رأى ذلك المقاول الذي يوزع المتسولات والمتسولين صباح كل يوم على الساحات والشوارع؟ قال: نعم رأيته.. ولكن كما قلت لك ما دخلي أنا بكل هذه الأمور؟.. إنه ليس من اختصاصي.. دعيني أنظم السير فقد اشتد الازدحام.. مع السلامة صحافة..
رابط آخر لظاهرة أخرى مشابهة
http://www.iraqcenter.net/vb/showthr...&threadid=9743