مناظرات ابن عباس (رض) مع عمر ابن الخطاب
قال ابن عباس :
دخلتُ على عُمَر في أوّل خلافته ، وقد اُلقِيَ له صاعٌ من تمر على خصفة ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتّى أتى عليه ، ثم شرب من جَرٍّ كان عنده ، واستلقى على مِرْفقةٍ له ، وطفق يَحْمَدُ الله ، يكرر ذلك ، ثم قال :
من أين جئت يا عبد الله ؟ قلت : من المسجد.
قال : كيف خلّفت ابن عمك ؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر .
قلت : خلّفتُه يلعبُ مع أترابه .
قال : لم أعنِ ذلك ، إنّما عنيتُ عظيمكم أهل البيت .
قلت : خلّفُته يمتح بالغرْب على نخيلات من فلان ، وهو يقرأ القرآن .
قال : عبد الله ، عليك دماء البُدن إن كتمتنيها ؟ هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم .
قال : أيزعم أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ نص عليه ؟ قلت : نعم وأزيدك ، سألت أبي عَمّا يدّعيه ، فقال :صدَق
فقال عمر : لقد كان من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في أمره ذَرْوٌ من قول لا يثبتُ حُجّةً ، ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يربَع في أمره وقتا ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحيْطة على الإسلام ! لا ورّب هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبدا ؟ ولو وليها لانتفضتْ عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّي علمت ما في نفسه ، فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم .
يقول ابن عباس :
إنّي لأماشي عمر في سكة من سكك المدينة ، يده في يدي .
فقال : يا بن عباس ، ما أظنّ صاحبك إلاّ مظلوما ، فقلت في نفسي : والله لا يسبقُني بها .
فقلت : يا أمير المؤمنين ، فاردُدْ إليه ظلاّمتَه ، فانتزع يدَه من يدي ، ثم مرّ يهمهم ساعة ثم وقف ، فلحقته .
فقال لي : يا بن عباس ، ما أظنّ القوم منعهم من صاحبك إلاّ أنّهم استصغروه.
فقلت في نفسي : هذه شرّ من الأولى ، فقلت : والله ما استصغره الله حين أمرَه أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر
قال : فأعرض عني وأسرع ، فرجعت عنه
قال ابن عباس :
كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل وأنا على فرس فقرأ آية فيها ذكر عليِّ بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ
فقال : أما والله يا بني عبد المطلب ؟ لقد كان عليُّ فيكم أولى بهذا الأمر منّي ومن أبي بكر .
فقلت في نفسي: لا أقالني الله إن أقلْته .
فقلت : أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين ؟ وأنت وصاحبك وثبتما وأفرغتما الأمر منّا دون الناس .
فقال: إليكم يا بني عبد المطلب ؟ أما إنّكم أصحاب عمر بن الخطاب .
فتأخَرتُ وتقدم هنيهة .
فقال : سِر لا سرتَ ، وقال : أعد علىًّ كلامك .
فقلت : إنّما ذكرتَ شيئا فرددتُ عليه جوابه ولو سكتَّ سكتنا .
فقال : إنّا والله ما فعلنا الذي فعلنا عن عداوةٍ ولكن استصغرناه ، وخشينا أن لا يجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها .
قال : فأردتُ أن أقول: كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يبعثه فينطح كبشها فَلمَ يَستصغره، أفتستصغره أنت وصاحبك ؟ فقال : لا جرم ، فكيف ترى ؟ والله ما نقطع أمرا دونه ، ولا نعمل شيئا حتى نستأذنه .
قال عبد الله بن عمر :
كنت عند أبي يوماً ، وعنده نفر من الناس، فجرى ذكر الشعر ، فقال: مَنْ أشعرُ العَرب ؟
فقالوا : فلان وفلان ، فطلع عبد الله بن عباس، فسلّم وجلَس ، فقال عمر: قد جاءكم الخبير ، مَنْ أشعرُ الناس يا عبد الله ؟
قال : زهير بن أبى سلمى .
قال : فأنشدْني مما تستجيده له .
فقال : يا أمير المؤمنين ، إّنه مدح قوماً من غطفان ، يقال لهم بنو سنان ، فقال :

قومٌ بأوَّلـهــمْ أو مجدِهـــــــمْ قعــــــدوا
* لو كان يقـعد فوق الشمس من كـرم‌ٍ
طابوا وطاب من الأولاد ما وَلَـدُوا * قــوم أبـوهم سنان حين تَنسبُـــــهُـم‌ْ
مُــــرَزَّؤُون بهــا لـيــلٌ إذ جــــُهِــدوا * إنسٌ إذا أمـِنـوا ، جِنٌّ إذا فزعـــوا
لا يــنزع الله منهـم مـــاله حـُـسِدوا * مُحسّدون على مـا كــان من نعــم‌ٍ

فقال عمر : والله لقد أحسن ، وما أرى هذا المدح يصلح إلاّ لهذا البيت من هاشم ، لقرابتهم من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ .
فقال ابن عباس : وفّقك الله يا أمير المؤمنين ، فلم تزل موفقا .
فقال : يا بن عباس ، أتدري ما منع الناس منكم ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين .
قال : لكني أدري .
قال : ما هو يا أمير المؤمنين ؟
قال : كرهتْ قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فيجخِفوا جِخْفا ، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت .
فقال ابن عباس : أيَميطُ أمير المؤمنين عنّي غضبه فيسمع ؟ قال : قل ما تشاء .
قال : أما قول أمير المؤمنين : إن قريشاً كرهـت ، فـإن الله تعالى قال لقِوم : ( ذَلِك بأنّهُمْ كَرِهُوا ما أنزل الله فأحبط‍ أعْمَالهُمْ )
واّما قولك : ( إنّا كنّا نجخف ) ، فلو جَخَفْنا بالخلافة جَخَفْنا بالقرابة ، ولكنّا قوم أخلاقُنا مشتقةٌ من خُلق رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ الذي قال الله تعالى : ( وَإنّك لَعَلَى خُلقٍ عظيم ) ، وقال له : (وَاخْفِض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعكَ من المؤمنين ) .
وأما قولك : « فإن قريشا اختارت » ، فإنّ الله تعالى يقول : ( وربك يخلُقُ ما يشاء ويختارُ ما كان لَهُمُ الخَيَرة ) وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك مَنْ اختار ، فلو نظرتْ قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت قريش .
فقال عمر : على رسْلك يا بن عباس ، أبت قلُوبكم يا بني هاشم إلا غِشّا في أمر قريش لا يُزول ، وحقدا عليها لا يَحول .
فقال ابن عباس : مَهْلاً يا أمير المؤمنين ؟ لا تنسُب هاشما إلى الغشّ ، فإن قلوبهم من قلب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ الذي طهّره الله وزكّاه ، وهم أهلُ البيت الذين قال الله تعالى لهم : ( إنما يرُيدُ الله ليُذهِبَ عنكم الرجسَ أهْل البيت ويُطَهِّرَكم تطهيرا ) .
وأما قولك : « حقدا » فكيف لا يحقد من غُصِب شيئه ، ويراه في يد غيره .
فقال عمر : أما أنت يا بن عباس ، فقد بلغَني عنك كلامٌ أكره أن أخبرك به ، فتزول منزلتك عندي .
قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ أخبرني به،فإنْ يكُ باطلاً فمثلي أماط الباطلَ عن نفسه، وإنْ يكُ حقا فإنّ منزلتي لا تزولُ به .
قال : بلغني أنّك لا تزال تقول : أُخِذَ هذا الأمر منك حسدا وظلما .
قال : أمّا قولك يا أمير المؤمنين : ( حسدا ) ، فقد حسد إبليس آدم ، فأخرجه من الجّنة ، فنحن بنو آدم المحسود .
وأما قولك : « ظلما » فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحقِّ من هو ! ثم قال : يا أمير المؤمنين ، ألم تحتجّ العرب على العجم بحق رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ، واحتّجت قريش على سائر العرب بحقّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ! فنحن أحقُّ برسول الله من سائر قريش .
فقال له عمر : قم الآن فارجع إلى منزلك ، فقام ، فلّما ولّى هتف به عمر: أيها المنصرف، إنِّي على ما كان منك لراعٍ حقك !
فالتفت ابن عباس فقال : إنّ لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كلّ المسلمين حقا برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، فمن حفظه فحقّ نفسه حفِظ ، ومَنْ أضاعه فحقّ نفسه أضاع ، ثم مضى .
فقال عمر لجلسائه : واها لا بن عباس ، ما رأيته لاحى أحدا قطّ إلاّ خصَمه ! .
عن ابن عباس قال :
مرّ عمر بعليٍّ ـ عليه السلام ـ ، وأنا معه بفناء داره فسلّم عليه .
فقال له عليٍّ ـ عليه السلام ـ: أين تريد ؟
قال : البقيع .
قال : أفلا تصل صاحبك ويقوم معك .
قال : بلى .
فقال لي عليّ ـ عليه السلام ـ: قم معه ، فقمت فمشيتُ إلى جانبه ، فشبك أصابعه في أصابعي ، ومشينا قليلاً ، حتى إذا خلّفنا البقيع .
قال لي : يا بن عباس ، أما والله إنَّ صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إلاّ أنّا خفناه على اثنين .
قال ابن عباس : فجاء بكلام لم أجد بُدّا من مسألته عنه .
فقلت : ما هما يا أمير المؤمنين ؟
قال : خِفْناه على حداثة سنِّه ، وحبّه بني عبد المطلب .
قال ابن عباس :
كنت عند عمر ، فتنفّس نفسا ظننتُ أنّ أضلاعه قد انفرجت .
فقلت : ما أخرج هذا النّفسَ منك يا أميرَ المؤمنين إلاّ همُّ شديد !
قال : إي والله يا بن عباس ! إني فكّرتُ فلم أدْرِ فيَمنْ أجعلُ هذا الأمر بعدي ، ثم قال : لعلّك ترى صاحبك لها أهلا !
قلت : وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه !
قال : صدقت ، ولكنه امرؤ فيه دُعابة .
قلت : فأين أنت عن طلحة !
قال : ذو الَبأو وبإصبعه المقطوعة !
قلت : فعبد الرحمن ؟
قال : رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته .
قلت : فالزّبير ؟
قال : شكسٌ لقس يُلاطم في النقيع في صاعٍ من بُرّ !
قلت : فسعد بن أبي وقاصِ ؟
قال : صاحب سلاح ومِقْنب .
قلت : فعثمان ؟
قال : أوَّه ! ثلاثا ، والله لَئِن وليَها ليحملَنَّ بني أبي مُعَيط على رقاب الناس ، ثم لتنهض العرب إليه .
ثم قال : يا بن عباس ، إنه لا يصلُح لهذا الأمر إلاّ خَصِف العقدة ، قليل الغّرة ، لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، ثم يكون شديدا من غير عنف ، ليّنا من غير ضعف ، سخيّا من غير سرف ، ممسكا من غير وكَف .
قال : ثمّ أقبل عليَّ بعد أن سكت هُنَيئة ، وقال : أجرؤهم والله إن وَليها أنٌ يحملهم على كتاب ربّهم وسنة نبيّهم لصاحِبُك ! أما إن وليَ أمرهم حملهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم .