 |
-
فضل الله في رسالة الى مؤتمر الجماعة الاسلامية في اميركا
وجه العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله رسالة خاصة إلى الجماعة الإسلامية بمناسبة انعقاد مؤتمرها السنوي في أمريكا الشمالية، تاريخ 22 شوال 1423هـ الموافق 26-12-2002م ، ركزت على كيفية المواجهة الناجعة للحملة العالمية ضد الإسلام.
ودعا سماحته في هذا المجال المسلمين الأميركيين إلى المشاركة في كل قضايا المجتمع الأميركي لكسب ثقة هذا المجتمع، ليتركوا تأثيرهم على مجرى الانتخابات واختيار الإدارة من خلال ذلك.
ولفت إلى أن العنف الذي حدث في 11 أيلول أدخل المسلمين في كهوف من الصعب أن يخرجوا منها في وقت قريب، مؤكداً على أهمية العمل السياسي المستند إلى الحكمة والواقعية ودراسة كل الشروط التي تؤدي بالمسلمين إلى شاطئ السلامة والأمان.
ومما جاء في الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه المنتجبين والتابيعن لهم بإحسان إلى يوم الدين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين...
السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته
لا يزال الإسلام في حركته التاريخية في خط الدعوة وخط الواقع على الصعيد الثقافي والسياسي والأمني يواجه الكثير من التحديات من هنا وهناك، ما قد يحقق إرباكاً للمسلمين في هذا الجزء من العالم أو ذاك الجزء، بفعل بعض الأحداث التي قد تهز الواقع وتخلط الأوراق وتشوّه ملامح الصورة، ليدخل المسلمون من خلال ذلك فيما يشبه الدوامة الأمنية أو السياسية، لذلك فربما يحتاج القائمون على العمل الإسلامي في أي مكان في العالم إلى أن يوجهوا المسلمين إلى أن يُخضِعوا كل تحرّكاتهم وكلّ مواقعهم لدراسة عميقة دقيقة واسعة شاملة للظروف الموضوعية السلبية أو الإيجابية التي تترك تأثيرها على مجريات الواقع في نطاق البلاد التي يعيشون فيها، في علاقاتهم بأهلها من غير المسلمين، وفي مواقعهم من قضاياها وقضاياهم في ما يتخذونه من مواقف، وأن يتابعوا أوضاع الأرض التي يقفون عليها، التي قد تعيش في موقع الثبات تارةً وفي موقع الاهتزاز أخرى.
على القيادات مهمة توعية المسلمين:
لذلك لا بدّ أن تنطلق القيادات الإسلامية في تنوّعاتها السياسية أو الفكرية لتثقيف الإنسان المسلم بالمفردات الحركية في علاقته بالناس وبالأوضاع، وفي تدقيقه بالوسائل وبالأساليب التي يأخذ بها في حركته من أجل تحقيق أهدافه، بحيث لا تنطلق حركته من موقع انفعال أو من حالة غيظ، بل من خلال دراسة المقدمات مقارنةً بالنتائج والوسائل مقارنةً بالأهداف، لأننا قد نستعمل وسيلةً من أجل الوصول إلى الهدف من دون دراسةٍ للارتباط العضوي بينها وبين الهدف، فتنكشف في نتائجها عمّا يُضادّ الهدف. وهذا ما نحتاج إلى مواجهته بكل دقة وكل موضوعية، ولعل من بين الأمور التي لا بد لنا من أن ندرسها دراسةً موضوعية واقعية، أن بعض الحركات الإسلامية قد تقوم ببعض الأعمال أو قد تستخدم بعض الوسائل بكل إخلاص للمسألة الإسلامية، ولكنها تُسيء اختيار الوسيلة المناسبة، باعتبار أن هذه الوسائل ربما تُحدِث لدى الآخرين في مواقع الصراع بعض الأذى، ولكنها قد تتحول بفعل ما يملكه هؤلاء المستهدفون من إمكانات ومواقع إلى عنصر مضادّ للهدف بدلاً من أن يكون عنصراً ملائماً له.
دراسة استخدام الرفق والعنف:
وعلى ضوء هذا، فقد يكون من الضروري أن ندخل في دراسة موضوعية علمية دقيقة لمبدأ الرفق والعنف في الإسلام، وهما المبدآن اللذان يتحركان في كل مواقع الحضارات في العالم، ولكن على أساس أن للرفق موقعه وللعنف موقعه، كما أن علينا أن ننفذ إلى عمق مسألة الجهاد في مفهومه الحركي وفي مضمونه المواجه للتحديات، لندقق فيه، ولنخرجه من منطق الوسيلة العدوانية ضد الآخر، ليكون كما هو التشريع الإسلامي وسيلةً دفاعية أو وقائية، وهذا ما تلتقي عليه كل الحضارات وكل التيارات، سواء كانت دينية أو علمانية، لأن المشكلة التي قد نواجهها، ولا سيما في الغرب، أن هذه الكلمة قد عُبِّئت بالكثير من المفردات المغلوطة التي حوّلتها من عنصر واقعي على مستوى حماية الإنسان، إلى عنصر عدواني ضد مصلحة الإنسان. وهكذا، لا بد لنا في حركية هذا المفهوم التشريعي من أن ندرس مواقع الجهاد وشروطه في هذا الموقع أو ذاك، لأن للجهاد شروطه وظروفه ومواقعه، فقد تقتضي المصلحة تجميد حركة العنف في مواجهة الآخر عندما لا تكون الظروف ملائمة للانتصار، بل قد تكون مدفوعة نحو الهزيمة، وقد تفرض علينا الانفتاح عندما تُستكمل كل الشروط.
حملة عالمية تستهدف الإسلام:
إننا نواجه الآن في هذه المرحلة الصعبة من تاريخنا الإسلامي حملةً عالميةً من خلال الاستكبار العالمي ضد الإسلام في العنوان الكبير وفي طبيعة الممارسة، وإن كانت بعض الأصوات في هذه الإدارة الرسمية الغربية أو تلك تتحدث بطريقة إيجابية عن الإسلام، ولكننا نلاحظ، كما يلاحظ الكثيرون، أن العناوين الاستهلاكية في الإعلام شيء والممارسات الواقعية شيء آخر، ولذلك لا بد لنا أن ندقق في هذه المساحة بين القول والفعل، لنحتاط لأنفسنا، حتى لا نُخدع بالكلمات المعسولة التي قد تمنعنا من التخطيط والاستعداد لحماية كل الواقع الإسلامي من هذه الحرب الجديدة التي قد تطرح عنواناً يجتذب الكثيرين، وهو«الحرب ضد الإرهاب»، ولكنها في الوقت نفسه تحاول أن تصل من خلال ذلك إلى التخطيط لمصالح اقتصادية أو سياسية أو أمنية أو ثقافية في العالم الإسلامي.
ونحن نقول للمسلمين عامة إن هذه المرحلة تستهدف الإسلام كله والمسلمين كلهم، بعيداً عن مذهبية هنا ومذهبية هناك، وعن قومية هنا وقومية هناك، ولذلك فلا بد أن يأخذ المسلمون بأسباب وحدتهم ليلتقوا على ما يتفقون عليه على مستوى النظرية والتطبيق وحركة الواقع، لأن العواصف التي تتجمّع في الأفق لن تترك موقعاً هنا أو هناك دون أن تهدمه أو تقصفه أو تعبث به.
إن المسألة الآن هي أن يعيش المسلمون في حالة طوارىء ثقافية تتحرك فيها كل إمكاناتهم الفكرية من أجل التخطيط لمواجهة هذه المرحلة الجديدة في الحرب الجديدة، وأن تندفع كلّ إمكاناتهم السياسية للتخطيط لعمل سياسي يختزن الحكمة والواقعية ودراسة كل الشروط التي تؤدي بالمسلمين إلى شاطىء السلامة والأمان. إن المسألة هي أن لا تتجمد طاقة لأن الإسلام يحتاج إلى كل الطاقات، وأن لا تندفع الطاقات للدخول في خلافات هامشية لا علاقة لها بكل هذا التحدي الكبير الذي يواجه الإسلام في العمق ويواجه المسلمين في قضية المصير، أن لا نستعيد الجدل البيزنطي الذي كان يحكم أهل قسطنطينية في أن الملائكة ذكور أم إناث، أو أن البيضة أصل الدجاجة أو الدجاجة أصل البيضة والفاتح يدقّ الأبواب.
احترام المسلم للبلد الذي يعيش فيه:
أمام كل هذا الحديث، نحاول أن ننفذ إلى واقع المسلمين في أمريكا في هذه المرحلة، وهو موضوع المؤتمر كما أظن: إن هناك حقيقة واقعيةً عمليةً، وهي أن المسلمين الذين يعيشون في أمريكا، سواء منهم الذين يحملون الجنسية، أو الذين يتمتعون بالإقامة ويعملون على الوصول إلى الجنسية لا بد لهم من أن يدرسوا كيف يمارسون انتماءهم إلى هذا البلد الذي يريد من المقيمين والمنتمين إليه أن يكونوا مواطنين صالحين يتحملون مسؤولية البلد في أمنه وفي اقتصاده وسياسته وكل ما يتصل به على أساس العنوان الكبير، وهو أن الشعب هناك هو الذي يقرّر نوعية الإدارة ونوعية القانون وطبيعة العلاقات العامة بين المواطنين، لذلك فإن على المسلمين المواطنين في أمريكا أن يدخلوا في المجتمع الأمريكي من الباب الواسع، بالمشاركة في كل قضاياه وأوضاعه على المستوى الأمني والاقتصادي والسياسي، بحيث يشاركون في صنع ذلك وفي تحويل تجمعاتهم إلى قوة ضاغطة تملك أن تدفع بالمجتمع الأمريكي إلى الالتزام بطروحاتها من خلال الإقناع المنطلق من الحوار مع كل المواقع الموجودة في أمريكا، ولعل من بين السلبيات التي يواجهها البعض من المسلمين في أمريكا، هو أنهم عاشوا على هامش المجتمع الأمريكي، فلم يخططوا للدخول في عمقه وامتداده وللتأثير على مفاصله على كل المستويات، ما جعل للفئات الأخرى التي تحمل عقدة ضد المسلمين في أمريكا وفي خارجها أن تتقدم الساحة، وأن تسيطر عليها، لتوجه الإدارة من خلال توجيهها للانتخابات في مصالحها التي قد تكون ضد مصالح الإسلام والمسلمين في العالم، لذلك فإنني أتصور أن على المسلمين أن يندمجوا في المجتمع الأمريكي، وأن يستخدموا علاقاتهم التجارية والثقافية والاجتماعية في سبيل كسب ثقة المجتمع الأمريكي الآخر، ليصلوا إلى نتيجةٍ يدفعون فيها الآخرين إلى التكامل مع المسلمين في القضايا السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية في داخل أمريكا وفي العالم، ليتركوا تأثيرهم على مجرى الانتخابات وعلى اختيار الإدارة من خلال ذلك.
وربما كان من السلبيات التي قد يعيشها بعض المسلمين أنهم لا يشاركون في كل الحركات الداخلية التي تواجه قوانين الضرائب أو المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع الأمريكي، ما يجعل المواطن الأمريكي الآخر لا يجد في المجتمعات الإسلامية من مواطنيه أي ارتباط عضوي بمشاكله التي هي مشاكل البلد كله، لأن الاقتصاد عندما يهتز ويضعف أو يسقط، أو عندما تشمل الضرائب الطبقات الفقيرة والمتوسطة، فإنها تترك تأثيرها على الجميع، لذلك لا بد أن يثبتوا مواطنيتهم بالاهتمام بالقضايا الاقتصادية بجميع مفرداتها، لأن ذلك يمنحهم الثقة في صدقهم في انتمائهم إلى هذا البلد، ثم إنه يؤدي إلى التخفيف عنهم من خلال ضغط مشاكل الضرائب أو السقوط والضعف الاقتصادي أو ما إلى ذلك.
المسلم يحفظ أمن البلد الذي يعيش فيه:
ثم إن على المسلمين أن يواجهوا المسألة الأمنية في البلد وقد كنت منذ سنين في كل توجيهاتي وتعاليمي وفتاواي الموجهة إلى المسلمين في الغرب وفي الولايات المتحدة بالذات، أدعو إلى أن لا يتعرض المسلمون من مقيمين ومواطنين إلى أمن البلد على المستوى الفردي والاجتماعي، وعلى مستوى الدولة، كلها لأن أمن البلد إذا اهتز فإنه يترك تأثيره على كل المواطنين في البلد، ولا يختص بفريق دون فريق، وهذا ما لاحظناه عندما فُجّر مركز التجارة العالمي في نيويورك، سقط فيه المسلمون وغير المسلمين بنسب متفاوتة، لذلك فإن محافظة المسلمين على أمن البلد الذي يقيمون فيه هو من مسؤولياتهم تجاه أنفسهم وتجاه مواطنيه، مع ملاحظة أساسية شرعية، وهي أن المسلمين عندما دخلوا هذا البلد وأقاموا فيه وحملوا جنسيته، فإنهم أعطوا العهد والعقد على أن يلتزموا بأمن هذا البلد، سواء كان أمناً اقتصادياً أو أمنياً أو ما أشبه ذلك. لذلك إني أتصور أن على المسلمين أن يثبتوا للمواطنين الأمريكيين الآخرين بأنهم يحافظون على أمن هذا البلد كما يحافظون على أمنهم الخاص، لأن ذلك هو الوسيلة للحصول على الثقة العامة.
أما المسألة التي يعيش المسلمون همها وتوترهم النفسي تجاهها، وهي موقف الإدارة الرسمية في أمريكا من قضايا المسلمين، ولا سيما القضايا الفلسطينية، فإننا لا نعتقد أن السبيل للوصول إلى إيجاد موقف عادل بما يتصل بهذه القضايا يمكن أن يُحل بالعنف، بل إن العنف الذي حدث في 11 أيلول سبتمبر أدخل المسلمين في كهوف ومغارات من الصعب أن يخرجوا منها في وقت قريب، وأعطى أكثر من مكسب للإدارة الأمريكية المعاصرة للسيطرة على العالم وللضغط على المسلمين في مواقعهم باسم محاربة الإرهاب، وباسم ملاحقة«القاعدة» في هذا البلد الإسلامي أو ذاك، ما جعل القضية سلبية على مستوى المصلحة الإسلامية، وإيجابية على مستوى سياسة الإدارة الأمريكية بنسبة كبيرة جداً، لأن المسألة ليست كيف تشفي غيظك، ولكن كيف تصل إلى أهدافك، وهذا ما قاله أمير المؤمنين(ع):«فلا يكن أفضل ما نلت في دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل وإحياء حق».
العمل للوصول إلى القرار الأمريكي:
إن علينا أن ندرس دائماً في كل وسائلنا وأساليبنا، هل يتحقق إحياء الحق وإزهاق الباطل في هذا أو لا يتحقق به؟ إننا ندعو جميع المغتربين والمواطنين من المسلمين الأمريكيين إلى أن يدخلوا في حوار دائم مع الأمريكيين على مستوى الشعب وعلى مستوى المؤسسات الثقافية وعلى مستوى الشخصيات السياسية والاجتماعية، وأن يستخدموا كل مواقعهم الاقتصادية في كسب ثقة المواطنين الآخرين من الأمريكيين.
إننا عندما نقرر أن يكون للمسلمين موقع متقدم فاعل في الغرب، وفي أمريكا بالذات، فإن علينا أن نحسن تعاملنا مع هذا الموقع، وأن نفكر على مستوى استراتيجي مستقبلي يخضع له كل التكتيك حتى يمكن أن نصل إلى مرحلة نملك فيها التأثير على القرار الأمريكي، قرار الإدارة الأمريكية في القضايا الإسلامية على مستوى العالم. أن نكون قوة تنفتح على مسؤولياتها في البلد الذي تعيش فيه بما يحمي أمن هذا البلد واقتصاده واجتماعه، من دون أن نتنازل عن شيء من إسلامنا وعن مبادئنا وعن قضايانا. كما أن علينا في مسؤولياتنا في الدعوة للإسلام، أن لا نقتصر على إبقاء المسلمين على إسلامهم وعلى التحضير لتربية الجيل الثاني والثالث من أولادنا لتبقى هويته الإسلامية، بل أن ندعو الآخرين إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والقول بالتي هي أحسن والدفع بالتي هي أحسن.
إن المرحلة بحاجة إلى ذهنية جديدة وتخطيط جديد، لنرتفع إلى مستوى أن تكون الأمة، لنخطط حيث يخطط الآخرون، ولندرس حيث يدرس الآخرون، ولنتحمّل جميعاً مسؤولية الإسلام كله من خلال ما نملك من طاقات وما نتحرك فيه من أساليب.
<وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون>
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مع محبتي ودعائي لكم جميعاً
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |