قصة أبي
نظرت إلى ساعتي ،و أنا في سيارتي انتظر خروج طفلي من مدرسته. رايته يهرول إلي ساحب حقيبته بيده. خرجت إليه و حضنته بقوة ،و أخذت حقيبته و ساعدته على الركوب . كان طفل جميلا في السابعة من عمره . عدنا إلى المنزل وقضينا وقتا ممتعا معا، ندرس و نمرح و نأكل، حتى حان موعد نومه ، فسألني أن أقص عليه قصة ، فسألته ماذا يريد مني أن أقص عليه .

قال لي : احكي لي عن أبي
خفق قلبي بشدة ، و شعرت بأنه سيخرج من أضلعي ، فتنهدت بقوة ، و نظرت إليه و عقلي
أخذني إليه ، إلى أبيه . حكيت له انه في ذات يوما استيقظت فيه من النوم ،و كان ذلك في يوم إجازتي. شاعرة بالكسل . حاولت النوم مرة أخرى ، حتى سمعت دق على الباب ، ففتحته فوجدت ساعي بريدا في انتظاري ، حامل لي معه رسالة معنون عليها عنوان مسكني . تعجبت كثيرا و أخذتها منه ، ففتحتها و قرأت سطورها ، فرأيت أنها أرسلت لي بالخطأ ، من كاتب صحفي في جريدة إلى صديقه قرأت بعض مقتطفات منها ، و شعرت بالخجل من نفسي. أغلقت الخطاب و أرجعته إلى الظرف . لبست ملابسي ، و تناولت طعامي . ذهبت إلى جريدته لأعيدها إليه ، و اخبره بان صديقه انتقل من مسكنه ، و إني سكنت شقته بعد تركه لها و مغادرته .


خرجت من بيتي ، و شمس الأفق تتبعني . ركبت الحافلة ، حتى وصلت إلى مبنى الجريدة. خلته و كان المكان شبه خاليا . سالت عنه و دلوني على مكتبه ، فصعدت إليه ، و رأيت اسمه على الباب ، فطرقت بابه و سمعت صوته يناديني، فدخلت عليه و نظرت إليه، و الارتباك يعلو ملامحي . طلب مني الجلوس فجلست و هو ناظر لي نظرة المتسائل .. أعطيته الرسالة فأخذها مني، و أخبرته بما حصل معي. ابتسم لي و من ثم شكرني . سألني ماذا اشرب ؟ اعتذرت منه و لكنه أصر أن يكافئني، حتى لو بقدح من الشاي، جلست أراقبه و هو يعمل . سمعته يتحدث مع صديقه حول قضية ما تشغل فكره . شعرت بان هناك شئ يجذبني إليه، و أني لا استطيع أن أبعد عنه نظري . أنهيت فنجاني و قمت من مجلسي ، فقام و مد يده للسلام شاكر لي حسن صنيعي . نظرت إليه إلى عينيه الواسعتين ، و إلى و قوة جسده و سمار بشرته . شعرت بإنني أذوب بلمسة يده، و أنني أصبحت كالعصفورة أمام نسر شامخ بقوته و حذاقة نظرات عينيه ، فدق قلبي سريعا، و خرجت من مكتبه، و مشيت بالطريق و أنا أفكر به، و بسر جاذبيته و هدوء صوته، و عمق فكره و بلاغة ألفاظه.


عدت إلى بيتي ، و مازالت أشعر بتأثير روحه على روحي، قضيت أيامي و أنا أفكر به، توقفت عن الحديث عنه ، عندما نام طفلي، فدثرته و قبلت جبينه ، و خرجت من غرفته، فجلست وحيدة أناجي روحي حتى أدمعت عيني ، من كثر الشوق إليه و الخوف عليه، بكيت بحرقة حتى تذوقت بكائي، فمسحت دموعي، و قمت لأتفقد بريدي و هاتفي عسى أجد منه رسالة تسكن فؤادي عليه. تذكرت يوم رحيله يومها لم استطع التوقف عن البكاء . كان سفره المتواصل يحزني، و لكن هذه المرة اشعر بأنه سيقتلني.. فتحت التلفاز لأسمع الأخبار فقد يطمئن قلبي أو ازداد خوفا عليه، فقد ذهب إلى بلاد بعيدة، ليغطي أحداث الحرب و الاحتلال. شاهدت البرامج حتى غلبني النوم .





جاء اليوم التالي و حان موعد نوم طفلي. فسألني أن أكمل له قصة أبيه .

قلت له : في ذات يوم كنت في مدرستي اعلم التلاميذ الصغار الحروف و الكلمات و الأناشيد، و احكي لهم القصص .
فقال لي : ما هي تلك القصص ؟
فقلت له : كنت احكي لهم قصص الأنبياء و الرسل. من قصة ادم و خلقه ، إلى قصة نوح و سفينته، مرروا بقصة موسى و فرعونه ، و قصة عيسى و أمه ، حتى أتممت لهم القصص..
بقصة محمد و معجزته.
فرن جرس الفسحة، و اندفع الأطفال إلى الساحة، يلعبون و يمرحون و يأكلون، و يتدافعون من حولي ، كم أشعر بالسعادة عندما أراهم، و هم في قمة سعادتهم . وضعت يدي على بطني لأسلم على طفلي، و هو جنين في أحشائي في الشهر الثالث من عمره . بدأت أتخيله و هو في سنهم . يلعب معهم ، و يلوث ملابسه مثلهم ، و ينطق بمثل حروفهم، و يأتني باكيا شاكيا كلما تعارك معهم و خاف منهم .

سرحت بأفكاري بعيدا ، حتى رأيت طفلا صغيرا يلعب بأوراق جريدة، فاهتزت فرائضي ، فتذكرته و تذكرت لمست يده ، و قوة نظرات عينيه التي أشعلت بي نار لم تنطفئ بداخلي، و سرقت من أحاسيسي . تنهدت و خرجت من أفكاري عندما سمعت صوت الجرس . مضى اليوم كعادته ، و انصرف الأطفال إلى بيوتهم ، و انصرفت إلى بيتي . مشيت بهدوء و أنا أتأمل الأشجار الخالية من أوراقها في موسم الشتاء .


عدت إلى بيتي، و رميت بحقيبتي ، و استلقيت على الأريكة.. عسى أن أغمض عيني، لأنام و أنساه لحظة. غفوت قليلا حتى سمعت صوت جرس الباب، فتحت الباب فوجدته واقفا أمامي ، فدعوته للدخول، و لكنه اعتذر و طلب مني بصوت حنون دافئ أن ألقاه في الساعة الرابعة النصف في احد المقاهي .


ذهبت إليه فوجدته في انتظاري ،و الابتسامة تضيء وجهه، جلست و أنا لا استطيع النظر إليه حتى لا أذوب بنظرات عينيه صمت لدقيقة و تكلمت أنا فسألته عن سبب اللقاء، فابتسم و بصوت عميقا هز مشاعري .
قال : أريد أشكرك
فقلت له : لا شكر على واجب.
سألني عن نفسي و وضعي الاجتماعي . شعرت بأسئلته كأنني مثل طفل صغير أمام معلمه
حتى شعرت بالشفقة على تلاميذي . أخبرته بحملي الذي لم اعلمه إلا بعد طلاقي من زوجي ، و أنا الآن أعيش وحيدة بعد وفاة أمي و زواج أبي . صمت و لم أسأله شئ حتى تشجعت و سألته عن حاله . اخبرني بأنه متزوج و لكنه لا يستطيع إنجاب الأطفال، و أن زوجته تحبه حتى العبادة رافضة الانفصال عنه ، و انه يبادلها ذات المشاعر . شعرت بان الدنيا كلها تهدمت أمامي، و أن أحلامي طارت مع الرياح. جلست بصمت و العواصف تهيج في كياني، فمن يريد امرأة مطلقة في مثل حالتي .

طلب مني أن امشي معه، فمشيت و مشيت معه كثيرا. كان يسمعني و يتحملني ،و يتحمل كل تقلباتي و مزاجي و اكتئابي خاصة بعدما سمعت بوفاة طليقي، فشعرت بان الدنيا كلها رمت حملها على عاتقي ،و لكن وجوده معي كان يخفف عني، كل همومي و معاناتي و وحدتي . كان يأتي معي لزيارة الطبيب ، للاطمئنان على حالتي، كان لا يعود إلى بيته، إلا بعدما يشعر بأنني، في أحسن حالاتي .




مشيت معه ذات يوم ، و طلب مني الجلوس ، و اقترب مني حتى شعرت ،بالدفء من حرارة أنفاسه ، فنظر لي بعمق هامسا بأذني احبك حبيبتي بل أنا مجنون حبا بك . شعرت بالدوار عندما سمعته . بدأت أنفاسي تتلاحق، و كأنها ستخرج من جسدي، فوضع يده على يدي و ضمها إليه، و داعب بقبلاته الناعمة شعري، و قال لي و هو يضع يده على بطني : أريد أكون أبو ابنك .. أريده يربى معي .. فاكفله و أعوضه عن أبيه .. هل تتزوجيني حبيبتي؟
كم شعرت بالسعادة و أنا اسمع كلامه.. حتى ذابت كل أحزاني و آلامي ..أحببته بكل جوارحي
حتى أصبح الناس كلهم يحملون اسمه .. و كنت لا أرى إلا وجه و لا اسمع إلا صوته.

آه كم بكيت عندما مرض وقتها لم استطع أن أكون بالقرب منه. ذهبت إلى المستشفى لأراه وجدت زوجته ترعاه و أهله من حوليه . شعرت بأنني انزع منها سعادتها بأنانية . قررت الرحيل بعيدا .. و أن أنزعه من جسدي و روحي، و لكن بعدما سمعت صوته بعد شفائه،تراجعت عن قراري . آه ما أجمل صوته و همسات حبه و دف مشاعره. مازال صوته يرن في أذني . حلمت به و هو عائد ليراقصني و يداعبني و يضحكني من أعماق قلبي وفؤادي . قرر أن يترك زوجته لتستطيع أن تتزوج و تكون أما من غيره .
تزوجته .. بعدما أنجبت طفلي، و حمله بين بيديه ، و سماه على اسمه ،و كبر بين يديه، و أصبح لطفلي أبا بعدما فقد أبيه، و أصبح له ابن طالما حلم به.

نام طفلي و أن أكمل له قصة أبيه، فسمعت صوت خافتا يناديني، فوجدت حبيبي واقفا،و الابتسامة تعلو شفتيه ،قمت لأرتمي بين أحضانه، و أقبله في كل مكان من جسده ، و أملئ روحي من عبير أنفاسه، بكيت بحرقه و أنا بين أحضانه. حملني بعدما قبل طفله، و جلست معه لأسمع أخباره و أشواقه إلى و إلى أبنه، فوضعت راسي على صدره، بجانب قلبه و أغمضت عيني ، فعرفت كم أحبه ، و كم هو يحبني.




تمت بحمد لله